الفصل الثالث عشر
كانت مرام متعبة حقاَ وكان النوم يلعب معها لعبة
سخيفة...كلما أغفلت جفونها لتنام...يشده لأعلى بعنف. كلما دفنت رأسها فى
وسادتها...يشد الوسادة بعيدا عنها ويشد جفونها لأعلى مرة أخرى ويضع صورة عمرو
كبيرة واضحة نصاب عينها. ظلت تفكر فيه طوال الليل...تفكر فيه وليس فى كلامه. ظلت
تتأمل كلماته وخطوط وجه من ذاكرتها. تبتسم كلما التقت بعينيه فى خيالها, كانت
سعيدة بلا سبب...مجرد سعيدة بوجوده بجوارها. لم تكن تريد أن تحبه...لأنها لا
تستطيع أن تقيده بجانبها...أقنعت نفسها فى الثلث الثانى من الليل أنها لا تحبه ولن
تحبه أبداً ولكن يكفيها أن تنشئ درجة أخرى فى سلم حياتها ويحتلها وحده.
فى صباح اليوم التالى كان وجهها مرهق من قلة
النوم. أول شئ قابلها فى الصباح صفحة مذكراتها. تأملتها قليلاً وتأملت السطر الأخير
منها...أمسكت بالورقة ومزقتها بعد قراءتها مرتين...كانت تمزق المعنى. لم يكن عمرو
بالمنزل عندما نزلت من حجرتها. كان يوم ممل جدا بالنسبة لها, لم تعرف لماذا ولكن
فى أعماقها كانت تعلم لان عمرو ليس بالمنزل...تجولت كثيراً بأرجاء المنزل محاولة
قتل الوقت حتى يجئ إليهم. بعد مرور ساعات طويلة مملة صدئة رجع المنزل وكان عبوسا
للغاية. شعرت مرام بقلبها يغوص بداخلها عند رؤيته بهذه الحالة. كانت اللهفة أقوى
منها سألته أول ما رأته:
- "فى
أيه؟ مالك؟"
-
"مفيش حاجة!" قال عمرو وهو فى طريقة لحجرته. تركها
بالطابق السفلى وأغلق حجرته من الداخل بالمفتاح.
التوى قلبها وهى تسمع المفتاح يدور فى الباب.
كانت متيقنة من كارثة نزلت به...انه ليس من النوع الذي يتأثر بالمشاكل
العادية...انه ليس فى ضعفها...ليس فى سلبية أبيها...ليس فى قلق أمها...ليس فى
سطحية أخيها...انه عمرو...انه قاطن حجرة الملائكة...انه صاحب الأفكار الصائبة وصاحب
الإرادة الصلبة. لم تتمكن من السيطرة على قلقها وخوفها عليه فصعدت لحجرته وطرقت
بابه...لم يرد عليها...طرقته مرة أخرى...لم يجاوبها أيضاً ولكنها كان تسمع بعض الأصوات
بالداخل كان شئ سريع يجرى فى الحجرة. نادت عليه ولم يرد أيضاً...لم تعرف ماذا تفعل
غير انتظاره أمام باب حجرته...ولكنها لم تنتظر كثيراً. بعد حوالى نصف ساعة فتح
عمرو الباب وكان محملا بشنط سفر...الشنط التى جاء بها!
-
"أيه ده؟ أنت رايح
فين؟" فزعت مرام لرؤيتها إياه مغادرا المنزل.
-
"انا آسف لازم أمشى!"
قال عمرو وقد ازداد عبوسا.
- "أيه اللى حصل؟ ليه؟
حد زعلك؟ حد عملك حاجة؟ انا عملت لك حاجة؟" كاد قلب مرام يخلع من صدرها.
- "لا أبداً! بس انا
لازم أمشى حالا"
- "ليه؟ أنت ممكن تقول
لى انا...مش هأقول لحد صدقنى لو مش عايز حد يعرف أنت سبتنا ليه! وأنت رايح فين أصلا؟"
كادت تجن.
- "نازل مصر!"
- "مصر؟! ليه؟"
- "..." لم يرد
عليها وكان على السلم بالفعل.
- "أيه اللى حصل رد
عليا!" ارتفع صوتها صارخاً إياه.
- "أشوف وشك بخير"
تركها ونزل درجات السلم.
- "استني بس! أنت
هاتيجى تانى؟" قالت مرام ودموعها بدأت فى الانهمار بلا اى إرادة منها.
- "معرفش!" لم يكن
ينظر لها.
- "اتصل بيك
ازاى؟" ارتفع صوتها كأنها تشده للخلف بقوة صوتها...لم تتمن استرجاع قدرتها
على الحركة أكثر من هذه اللحظة.
- "معرفش" لم
يتوقف.
- "طيب هات تليفونك فى
مصر" كانت تتوسل اليه بعيون منهارة ملتاعة وصوت متهدج.
- "مع والدك!" لم ينتظر
لحظة أخرى...خرج من المنزل بسرعة دون تحية اى شخص وبلا شكر لهم أو وعد
بالاتصال...فقط انصرف من المنزل كأنه رياح...ليس لها وجود إلا فى عقلنا ونشعر بها
وهى تداعب خصلات شعرنا.
لم تعرف ماذا تفعل...لم
تكن مستوعبة انصرافه فجأة وبلا اى مقدمات...بلا اى سبب واضح...ماذا تقول لوالديها؟
وما أهمية والديها الآن؟ لقد فقدته...لقد ترك درجة سلم حياتها فارغة وذهب. دخلت
مرام حجرتها وظلت تبكى بشدة ونشيجها يرتفع دقيقة بعد أخرى...شعرت بفراغ هائل
داخلها...فراغ يكاد يفرى أحشائها...كان بقلبها لوعة حارقة...كان حلقها يزداد
اختناقا كلما بكت أكثر...كانت عيناها تدميان ولا تدمعان...شعرت كأن أصوات حياتها
قتلت ولون عمرها بهت. لم تصدق انها بالفعل منهارة لتلك الدرجة...كانت عين فى عقلها
تنظر لها وتستنكر عليها الانهيار والبكاء وكل ذلك...كانت مرام بداخلها غير متيقنة إن
كانت بالفعل منهارة أم أنها لابد أن تتأثر بشدة لفراقه. بعد الكثير من الوقت هدأت
ولم تعد تبك أو لم يتبقى لديها طاقة للبكاء. توجهت للمرآة وتأملت نفسها
فيها...كانت عينها شديدة الاحمرار وانفها متورم وحاجبيها أيضاً. كان وجهها محتقنا.
اعتدلت فى الكرسى ومسحت عينها وركزت على صورتها فى المرآة حتى تحسن شكلها قليلاً.
ظلت تحملق بانعكاسها...دققت فى ملامحها بشدة...نظرت فى عينها بعمق..."مرام!
أنت مش وحشة أوى" قالت لنفسها...فزعت عندما سمعت صوتها...كأن صوت شيطان
يكلمها...نفضت رأسها وابتعدت بسرعة عن المرآة..."انا أتجننت ولا أيه؟"...اتجهت
للشباك تنظر للبحر ثم جاءتها فكرة...فكرة أن تدخل غرفة عمرو وتبقى بها!
بالفعل ذهبت
لحجرته...توقفت قليلاً بالباب...لم يكن مغلق...دخلت ببطء وأغلقت الباب وأضاءت
النور. كانت الحجرة مازال بها ذلك الشعور الغامض بالراحة والصفاء. كانت خالية
مثلما رأتها أول مرة تدخلها قبل مجيئه...فكرت فى أن تلك الجدران احتوت روح سمحة
صافية قوية لمدة كافية لتزيد من صفاء الحجرة وقدسيتها. كانت رائحة عمرو مازالت
عالقة بالهواء. تأملت السجادة التى خطا عمرو كثيراً عليها...تأملت السرير الذى نام
عليه...المكتب...الشباك...كل شئ...ترك عمرو بصماته بكل شبر بالحجرة. حزنت وهى تتأمل
الحجرة وتتخيله بها. فتحت أدراج مكتبه وأدراج الدولاب...فتحت الدولاب...كل شئ
فارغ...تمنت أن يكون نسى اى شئ خلفه...ولكنه بالرغم من الاستعجال الواضح به لم ينس
شيئا. قلبت الوسادات من على الكنبة والسرير...وجدت كتاب صغير تحت وسادة
السرير...فرحت بشده...فرحت جدا...كأن عمرو ترك ورائه جزئا منه يعينها على تحمل
فراقه. حاولت قراءة عنوان الكتاب ولكنه كان باللغة العربية...إنها تتحدث العربية
ولكن لا تقراها أو تكتبها. ولكن لم ينقص هذا من فرحتها بالكتاب...لم يهمها
ذلك...الكتاب شئ آخر غامض...يليق بغموض عمرو. فتحت أدراج
"الكمودينو"...نسى عمرو أن يفتحهم قبل انصرافه...انها مليئة بأشيائه.
ارتسمت فرحة عارمة على وجه مرام كأنها ألقت بيدها على كنز. ترك عمرو بعض المجلات
العربية وقلم ومصحف صغير وعلبة سجائر وكشكول صغير بحافظة جلدية وعلبة دواء. فتحت
المجلات وبالطبع لم تفهم شيئا...كان الكشكول الصغير مكتوب بداخله باللغة العربية أيضاً
وكان واضح انه كان يستعمل قلم واحد فقط فى الكتابة...تأملت خطه طويلا ولم تفهم
شيئا ولم تستطع تحليل الخط...ولكنها كانت سعيدة...سعيدة جدا. حملت تلك الأغراض
وذهبت لحجرتها وأعادت النظر اليهم طويلا. فتحت جميع صفحات الكشكول الصغير...قلبت
المجلات الواحدة تلو الأخرى أكثر من مرة تنظر تارة إلى الصور وتارة إلى الخط
الغريب. فتحت علبة السجائر وعدتهم...كتبت بقلمه سطور بلا معنى ولكن شعورها بأنها
تمسك القلم مكان أصابع عمرو أعطاها شعرو كأنها تسبح. خافت من فتح القران...كانت
تعلم انه قران...رأته من قبل عند أبيها فى المكتبة. كانت علبة الدواء خاصة بالصداع
النصفى...لم تعلم مرام أن عمرو يعانى منه...لم يقل لها...لم يكن يقول لها اى شئ عن
نفسه على اى حال.
جاءت بصندوق
صغير...الصندوق الخشب الذى كان يحمل الورود المجففة المهداة لها من فريدريك...أفرغت
ما فيه من ورود فى احد الأدراج الفارغة لديها ووضعت أغراض عمرو مكانها...رصتهم باهتمام
بالغ. أغلقت الصندوق وضعته على مكتبها وسحبت ورقة وقلم لتكتب صفحة جديدة من
مذكراتها.
مذكرتى العزيزة
تركنها
الملاك...تركتنا الروح العطرة...غادرنا عمرو...بلا كلمة...بلا تبرير...بلا سلام...بلا
وعد للقاء آخر.
سكت قلمها ولم تستطع
البوح بما فى قبلها من معانى. كانت المعانى داخلها أكبر من الكلام...أعمق. لم تخرج
لأبيها وأمها فى تلك الليلة لتخبرهم بخروج عمرو. لم تعرف ماذا تقول وكيف تبرر
الموقف, لم ترد أن يتكون لديهم فكرة سيئة عنه...انه لا يستحق ذلك. فى الصباح
التالى التقت بابيها وأمها على مائدة الإفطار...كانت عطلة نهاية الأسبوع. سألت
الام ان كان عمرو قد أستيقظ أم لا ولم يجاوبها احد. ظلت مرام بلا كلام. سأل الأب
مرام ان كانت رأت عمرو الليلة السابقة لأنه لم يتعشى مهم ولم يراه أحد طوال اليوم.
بعد القليل من التردد قالت:
-
"عمرو خرج امبارح
ومرجعش!"
-
"يعنى ايه؟"
سال الاب.
- "خد هدومة وحجاته
ومشى"
- "نعم؟" قالت
الام فى عدم تصديق.
- "خرج وراح مصر"
حاولت مرام قول أقل كلمات ممكنة.
- "ليه؟" سأل الأب
ومازال عدم التصديق عالقاً بالهواء بينهم.
- "معرفش"
- "يعنى مشى وراح
مصر؟!" أستفسرت الأم فى ذهول تام.
- "قال ايه قبل ما
يمشى؟" سأل الاب وبدأ يفقد أعصابه من هدوء أبنته.
- "قال أنه لازم يروح
مصر وسألته ازاى نتصل بيه قال أن حضرتك معاك رقم التليفون فى مصر"
- "ايه قله الذوق دى؟!
ده عدم إحترام وعدم تقدير...على الأقل كان يشكرنا على الأستضافة" استمرت الام
فى صب غضبها على عمرو وقالت الكثير والكثير عن عدم أكتراثه بهم على الرغم من
الاستضافة الممتازة له فى غربته. سكتت مرام ولم تحاول حتى الدفاع عنه وساند الاب
زوجته فى حملة التنديد بأخلاق عمرو.
لم تتكلم مرام وبعد
هدوئهم واستيعابهم للمفاجئة طلبت مرام من ابيها ان يتصل بصديقه والد عمرو ليعرف
لماذا تصرف ابنه بهذه الطريقة.
-
"لا! انا مش
هاتصل. هوا اللى ساب البيت مستحيل اطلبهم."
-
"علشان خاطرى يا
بابا. انت متقدرش تحكم عليه من غير ما تعرف السبب الحقيقى لخروجة المفاجئ"
- "أبداً. وكمان لما
يتصل مش عايز اكلمه" ثار الاب.
- "ليه؟ هو عمل ايه؟
ساب البيت من غير ما يقول شكراً...خرج من غير ما يسيب خبر...عمل ايه تانى؟ سرق
حاجة؟ كدب؟ ضرب حد؟ اذى حد؟" دافعت مرام.
- "متحاوليش الدفاع
عنه. ده انسان وقح وانا مش ممكن أكلمهم فى مصر"
- "طيب أكلمهم
انا؟" توسلت مرام لابيها.
- "لا! تكلميه
ليه؟"
- "على الأقل نطمن فيه
ايه؟"
- "أنا مش عايز أعرف فى
ايه" عاند الاب بشده فكرة الاتصال بعمرو تأثراً بالموقف.
- "مش جايز يكون فى
ظروف قوية جداً خلته يمشى من غير ما يقول"
- "كان ممكن يتصل بيا
او يتصل بوالدتك او حتى اخوك او يقول لك...ده مشى وخلاص زى ما يكون فى فندق"
حاولت مرام كثيراً مع ابيها ولم تتمكن من إثنائه
عن عناده وتصميمه على ألا يتصل. بعد محاولات عديدة مستميتة مع أمها اقنعتها ان تأخذ
الرقم من والدها وستتصل مرام بهم فى مصر. بعد محاولات مع زوجها نجحت الام فى
الحصول على الرقم.
أخذت مرام الرقم وأمسكت به طويلاً فى يدها لا
تعلم ماذا تفعل به. هل تتصل وتسأل....ام يجب عليها الانتظار بضعة أيام وتتصل به!
بعد تفكير قصير قررت ألا تتصل إلا بعد يومان. أتصلت بنالا تحكى لها ما حدث
واستنكرت صديقتها هذا التصرف بشدة ولكن لم تسئ لعمرو بأى كلمة ولكن أستبد بها رغبة
فى معرفة السبب المؤدى لهذا. لم تخبرها مرام بحصولها على الرقم حتى لا تؤثر
صديقتها عليها فتتصل. بعد الانتهاء من مكالمة نالا عادت وتأملت أغراضة ودخلت غرفته
مرة أخرى للتجرع من المكان المزيد من الهدوء والصفاء. قررت إمضاء الليل فى
غرفته...على سريره وسط الملائكة. ظلت بالغرفة حتى الليل وعندما جاء ميعاد النوم لم
تتمكن من النوم هذه الليلة أيضاً. ظلت تتقلب يمينا وشمالا كأنها على جمر النار وفى
النهاية تركت الغرفة وذهبت لحجرتها.
مذكرتى العزيزة
حاولت النوم بحجرة المائكة ولكن يبدو ان روحى
ليست بالنقاء الكافى لاسكنها! لم تمكننى الملائكة من النوم اطلاقاً رغم تعبى
البالغ. حاولت التفكير فى عمرو ولكن كلما أمسكت بصورته فى عقلى تطير كالدخان...أحاول
مرة أخرى رسم خطوط وجهه وافشل كأنى نسيتها...كأنى أرسم صورة لسحابة...بلا ملامح
واضحة. كلما حاولت استرجاع كلماته...استرجها بلا ان احس بها...أفشل فى إسترجاع
صوته...فقط أعرف الكلمات كأنى قرأتها ولم أسمعها. لماذا يحدث هذا ولم يمر على
خروجة من المنزل يومان! هل تأثيره على ليس بالقوة التى كنت أعتقدها؟ لا أعلم...
قاومت الأتصال به رغم شغفى البالغ ومحاولاتى
المستميتة للحصول على الرقم...
ربما أتصل به الغد وأعرف....لا لا...ساتصل بعد
الغد...حتى لا يشعر بأهميته ويعرف حجم الخطأ الذى أرتكبه. ياترى لماذا تركنا؟ هل
ضايقناه؟ هل لخروجه المفاجئ تفسير آخر غير أنه يوجد بمصر ما يستوجب ذهابه بهذه
السرعة؟ أم لابد انه فعل شئ ضخم ويريد الهروب منه قبل القبض عليه مثلا؟!
الفصل الرابع عشر
نامت مرام فى حجرتها
حتى الظهيرة. حلمت بأشياء كثيرة ولكن لم تتذكر منها أى شئ ولكنها كانت متأكدة من
وجود عمرو بأحلامها. بعد الكثير من محاولاتها الفاشلة للقرائة لم تتمكن من التركيز
فى أى شئ غير الاتصال بعمرو. كانت تريد ان تؤجل الاتصال لليوم التالى ولكن شغفها
كان ناراً تاكلها ساعة تلو الأخرى. فى النهاية لم تتمكن من المقاومة أكثر وأتصلت
بالرقم الذى أخذته من أبيها.
أرتجفت يدايها قليلاً وهى
تدير الرقم...تسارعت دقات قلبها لدرجة انها سمعتها تطن فى أذنها. سمعت جرس وتحولت
كل حواسها الى حواس سمعية. بعد قليل تلقت رداً:
-
"الو" قال
صوت سيدة.
-
"الو!" لم
تتوقع مرام صوت شخص آخر غير عمرو...فأرتبكت قليلاً.
- "ايوه"
- "أ...أ...عمرو
موجود؟" ترددت مرام فى غلق الخط قبل النطق بأسمه.
- "مين معايا؟" سأل
الصوت فى إهتمام.
- "هو مش موجود؟"
ترددت مرة أخرى فى غلق الخط.
- "مين حضرتك؟"
قال الصوت بقليل من القسوة.
- "مرام!" قالت
مرام بصوت خفيض ولكن كافى بأن يسمع.
- "عمرو مش هنا! هابلغه
لما يرجع"
- "شكراً" لم
تنتظر السيدة ان تقول اى شئ آخر ووضعت السماعة مكانها وشعرت بكثير من الإحباط
والندم لأتصالها وتمنت الانتظار لليوم التالى.
بعد ساعتان عاودت الاتصاا ونسيت ندمها. هذه
المرة أيضاً كانت نفس السيدة على الطرف الاخر من الخط...رمت مرام السماعة مكانها
بلا ان تنطق حرفاً واحداً. كرهت صوت السيدة. عاودت الاتصال مرتين وبدا لمرام ان
هذه السيدة تتربص بالمكالمات. تركت الهاتف وقررت ان تتصل به اليوم التالى كما قررت
من قبل.
ظلت مرام بشباكها وجائت رياح خفيفة وتخيلت ان
لها رائحة عمرو. جاء لمرام رائحة عطره عبر البحر...لم تدرك ان كان ذلك من وحى
خيالها أم كانت الرياح بالفعل تحمل جزء منه اليها. نظرت حولها ولم تعرف كيف تنظر
للرياح...نظرت للسماء وكان بها القليل من السحب البيضاء الصغيرة...هل مررت به؟
هل شاهدك؟ هل قال لك اى شئ لتبلغيه لى؟ هل هو سعيد؟ هل قال لك لما تركنا؟...
فكرت مرام وهى تحاول جاهدة إمساك رائحته فى الرياح. نظرت للسماء وتمنت أن تهب رياح
من شباكها لتصل اليه وتخبره كم تفتقده وكم هى قلقه عليه...لتخبره كم هى غاضبة منه
لتركه لهم بلا مبرر.
ظلت تفكر فيه وفى كلامه وفى حجرته وأغراضه التى
نساها بالأدراج. أرادت ان تفتح الكشكول مرة أخرى ولكنها كانت تعلم انها ستحبط بشدة
عندما ترى خطه أمامها وهى غير قادرة على فك الرموز والمعانى. وهى تنظر للبحر
بحركته الابدية تذكرت شئ مهم...دى مذكراته!!!!...قالت مرام بصوت عالى ولمعت
عينها وأرتعشت أهدابها. فتحت الصندوق بسرعة وأخذت تنظر للسطور المخطوطة بلغتها
ولكن لا تتمكن من قرائتها...جائها شعور جارف بالندم لعدم تعلمها قراءة لغتها
الام...شعرت بالغباء يضحك عالياًُ فى وجهها. أغتاظت حقاَ لاكتشافها سر الاسطر
المرسومة بين يديها وعدم قدرتها على قرائتها. فكرت فى ان تجعل احد ابويها يقراها
لها ولكن تراجعت بالطبع عن ذلك...كيف تستطيع إطلاع أى شخص على أسرار عمرو...تخيلت
ابويها يقراءون مذكراتها...أقشعرت من الفكرة...لا لا مستحيل!!...قالت مرام
بصوت مسموع أيضاً. كانت تصدم عندما تسمع صوتها يتكلم...كأن به قوة خارجية تسيطر
على كلامها.
ذهبت لوالدها وأخذت معها مصحف عمرو.
-
"علمنى ازاى
اقرا" قالت مرام وهى تناوله المصحف.
-
"..." نظر الأب
اليها وإلى المصحف واليها مرة أخرى ولم يتكلم ولم يبد على وجهه أى تعبير.
- "علمنى ازاى اقرا
عربى...انت مش بتعرف تقرا عربى؟" قالت فى قليل من نفاذ الصبر.
- "جبتى القرآن ده
منين؟" سألها الأب ولازال لا يبدو عليه أى تعبير.
- "جالى هدية! علمنى
بقى!" كان الفضول يأكل أحشائها.
- "عمرو اداكى المصحف
ده؟"
- "ايوه!" لم ترد إضاعة
الوقت فى كلام لا يوجد فائدة من ورائه.
- "ممم! كويس!"
- "ايه هو الكويس؟ علمنى
اقرا ازاى"
- " بس دى مش حاجة
سهلة! لازم الأول تعرفى الحروف وازاى تنطقيها..." لم تمهله مرام فرصه لإستكمال
الجملة.
- "انا باتكلم اللغة بس
محتاجة أعرف اقراها! ورينى الحروف وانا اكيد هاعرف اقرأ على طول! عرفنى شكل الحروف
وأصواتها...وانا ممكن اقرا على طول" أستجدت أباها.
- "ماشى! هاتى ورقة
وقلم الأول"
جلبت له ورقة وقلم وكتب
حروف الأبجدية العربية وفى مقابل كل حرف كتب لها النطق بالإيطالية. بعد الانتهاء
من ذلك توجهت لحجرتها لتفك رموز ما كتبه عمرو. لم يكن ذلك سهلا اطلاقاً...لازات
اللغة العربية المكتوبة لغة اجنبية مجهولة لها. حاولت كثيراً ولكن تشابك الحروف لم
يمكنها من فك رموز اى شئ. اثار ذلك غضبها فألقت بالمذكرات جانبا...وضعت وجهها فى
كفيها وكان كل تفكيرها منصب على الفشل الذى لاقته.
اتى الليل واتى معه أشتياق
جارف لمكالمته عمرو. شعرت بالحياة تتجعد لعدم وجوده...كأن ورود حياتها قطفت وبدأت
تذبل. كانت متيقنة انها لا تستطيع الاتصال به مرة أخرى ولكن صوته بدأ يخفت من أذنها...خطوط
وجهه تختفى خط تلو الاخر...رائحة الحجرة تتبخر دقيقة بعد الأخرى. وجوده أصبح ذكرى
ولم يفت على رحيلة أيام معدودة.
مذكرتى العزيزة
أفتقده! أفتقده كثيراً!
كم أشتاق لكلماته المطمأنة لقلبى وعقلى ووجدانى! كم كان وجوده يسعدنى. ربما احتاج
الى صديق...ربما الى شقيق اخر...ربما الى رجل! لا أعلم ماذا أريد من عمرو ولكن
وجوده كان كافى ليشعرنى بالسعادة والرضا. كلماته كانت تعبر عن واقع قاس اعيشه وكان
يتقبلنى بواقعى وعجزى. كان يعأملنى على انى انسانة كاملة وكم كنت أحب ذلك. لم يجمل
اخطائى ولم يتهوان معى...لم يتردد فى إعتراض أفكارى ولم يخاف من جرح شعورى عندما
اكون مخطئة! أريد ان يعاملنى جميع الناس على انى انسانة كاملة ويواجهوننى باخطائى
ويحاولن فهمى...لا أريدهم ان يتعاطفون معى مثلما يفعل ابى وامى ولا أريدهم ان
يخافوا أن واجهوننى مثل نالا...نالا تقول لى أى شئ أريد ان أسمعه...وعندما تثبت الأيام
ان رأيها كان صائباً تقول لى انها لم ترد ان تصارحنى من البداية حتى لا تجرحنى! كم
أكره ذلك...لا أحب منافقتها لى ولكن نالا معتقدة تماماً انها أكثر ذكائاٌ
منى...لما؟ لأنها تفهم ما يدور بعقل الناس بلا اى مجهود...تقرأ أفكارهم كأنها تقرأ
أفكار نفسها...تعرف كيف تقنع من حولها بما تريد بلا ان يشعروا بانها هى من
تحركهم...تتركهم بفكرة ان أرادتهم الحرة هى التى تحركهم. فى الوقت ذاته أقول انا
ما أشعر به...اعترض الأفكار المضادة لرأيي...تحب نالا أن تشعر بأنها تحرك من حولها
طبقاً لأرادتها...تحب أيضاً ان تشعر انها ضحية!! ضحية قلبها وضحية ظروف حياتها
وضحية الأيام!! ربما يخونها ذكائها فى التعامل مع حياتها الشخصية ولكنها تشعر بأنها
متفوقة بذكائها دائماً عندما تعقد مقارنة بين نفسها وبين اي شخص آخر. وهذا الشعور
يشبع غرورها.
ربما لو كان أستمر
عمرو فى البقاء لدينا لكانت أوقعته فى حبها...تستطيع نالا إيقاع الرجال فى حبها
ببساطة وسهولة ويسر. تملك نالا الجاذبية والذكاء الكافى لإيقاعهم. ربما أعجبت
بعمرو فعلاً ولكن لم تعطها الأيام الفرصة الكافية ليحبها. ربما يحبها هو أيضاً
عندما يرجع...لو عاد!
اتمنى أحياناً الصراخ
فى وجهها عندما تتباهى بذكائها أمامى...أتمنى ان تدرك كم تضيع حياتها فى التباهى
بذكائها بلا استخدام حقيقى له. أعلم انى اقل ذكائا منها ولكنى أعرف ما بداخلى...أعلم
ماذا أريد وكيف اتعامل مع من حولى وكيف أريد ان يعاملنى الناس. أريدهم ان
يواجهوننى بنقاط ضعفى ويتعاملون بها ولكن نالا تريد من حولها ان يرى ذكائها كأنه
الشئ الوحيد بها...ذكائها وجمالها. لا أتذكر من قال ان المراة تكون خطراً عندما
يجتمع لديها الجمال والذكاء... وفى حالة نالا...إنها تشكل خطراً على نفسها فقط
وليس على اى شخص آخر. ولكن هل عمرو بذكاء نالا؟ هل يفضل الأرتباط بانسانة أقل منه
ذكائا ام امرأة متساويه معه؟ أعتقد ان عمرو يحب المرأة القوية. ولكن نالا ليست
قوية...انها ضعيفة عندما تفكر بقلبها...عندما تحب تكون أغبى شخص على وجه الأرض.
تبحث عن أى شخص ينصحها ويؤكد لها ان اختيارها لذلك الانسان اختيار صحيح
وذكى...تريد دائما إقناع نفسها بأنها تحب بعقلها وليس بقلبها. نالا لا تحب بعقلها أبداً...انها
تقع بهم فى حبها بعقلها ثم تحبهم بالفعل وتنسى كل شئ عن المنطق والعقل والذكاء.
فى الماضى كانت نالا
تؤكد لى انى ضعيفة وليس لدى ارادة لاواجه فريدريك. كان فريدى هو محور حياتى
الوحيد. كنت انام حتى أستطيع ان اراه فى الصباح...كانت اخرج لاقابله وارجع البيت
سريعا حتى اكلمه فى التليفون. أعلم ان حبى كان يخنقه وكثيراً ما طلب منى ان اعيش
حياتى انا بدونه...ان اخرج بدونه...ان يكون لى أصدقاء لا يعرفهم هو...ان اقرر ما أريد
بلا مناقشته واستشارته. كانت نالا دائما ما تواجهنى بضعفى أمامه...ولكنها تكون
ضعيفة أيضاً أمام من تحب...ولكنى كنت متيمة به...كنت اتنفس لانه لى...كنت أحلم به
وأستيقظ من النوم اتصل به. بعد الحادث كنت محطمة تماماً...كنت أريده بجانبى حتى يشعرنى
بانى انسانة طبيعية...كان حبى له حب انانى. أعلم ان الحب تضحية وكنت على اتم
استعداد ان اضحى باى شئ من اجله ولكن لم اكن مستعدة بان اضحى به هو! كيف اضحى به
من اجل حبى؟! أأضحى بحبى حتى يعيش الحب؟! كيف؟؟ ولكن كان على ان اضحى به من اجل
كرامتى! لم يجرح فريدى كرامتى أبداً وكان دائما ما يحفظ كبريائى وكان يعلم جيدا
انى على استعداد بان اضحى بحياتى فى سبيل كرامتى!
بعد الحادث بأيام
معدودة زارنى فريدريك ولم يكن يعلم انى شللت...دخل الحجرة ورأنى فى الضمادات
اللانهائية والكدمات والجروح تملأ وجهى وذراعى...ذعر من المشهد ورايت دموع فى عينه
ولكن منعها من الانهمار. لم يتكلم...فقط نظر لى نظرة ملتاعة. بعد دقائق من السكون
التام بيننا سإلنى إن كنت بخير وكيف أشعر. لم اجبه وعاود السؤال مرة أخرى ولم أجبه
أيضاً. مسك يدى وقبلها وبكيت دموعاً صامتة. كنت منهارة تماماً...لم يعرف خبر إصابتى
بعاهة مستديمة...والأن فريدى يسألنى كيف حالى!!! أردت ان أقول له انى شللت وانى لن
أستطيع ان أمشى مرة أخرى...انى أصبحت قعيدة ولكنى لم افعل اى من ذلك...كانت صدمتى
أقوى من الكلام وأقوى من الشعور بأى شئ وأى شخص حولى. كنت أشعر فى اعماقى بأنى
بالتأكيد سأخرج من هذه المحنة...انه لابد أن يكون حلماً مزعجاً وسأفوق منه...ولكنه
بالطبع كان واقعاً اليماً قاسياص. لم يكرر فريدريك السؤال وكانت دموعى كافية بأن
تنبهه بأن شيئاً فظيعاً حدث. خرج على الفور ليسأل الممرضة. وقالت له كل شئ...عرف
انى أصبحت نصف انسانة. رجع لى وهو يكاد يقع من هول الصدمة. نظر لى وهو ذاهل ودموعاً
حارقة بدأت فى الانهمار. دموعاً تراها فى المأتم...دموع على شئ فقد. لم تؤثر فىّ
دموعه...لم يتبقى لدىّ شئ يحزن...كان الحزن يبتلعنى تماماً. كنت فى حالة لا تسمح بأن
أشعر بأى شخص آخر غيرى...ولكنى أتذكر نظراته ودموعه ورعشة يده وهو ينظر لى نظرة
غريبة لم أراها من قبل على وجهه. نظرة حلم ضائع...نظرة حزن ونظرة فراق...كنت أعلم
بأعماقى أن هذه هى آخر مرة أراه فيها, لا أعلم لماذا كان هذا شعورى إنذاك ولكنه
كان صحيحاً الى حد ما...على الأقل لم يؤثر الحادث على شفافية شعورى نحوه. نظرت اليه
كأنى أودع آخر لون فى حياتى...كأنى أودع أهلى كلهم قبل السجن...قبل الشنق. شعرت كأن
نظرته لى هى نظرة الوداع قبل ان يضعنى فى قبرى...كان يودعنى...أعلم انه كان
يودعنى. تمزقت تماماً بعد ان تركنى بلا كلمة او وداع حقيقى. لم أعلم إن كان سيرجع
مرة أخرى لى أم لا. لم يعد لدى اى أمل فى الحياة. ماتت أحلامى مع موت أطرافى.
بعد شهرين من الحادث
وبعد مكوثى فترة فى مصحة حيث تعلمت كيف أتعامل مع حياتى الجديدة. زارنى فريدريك
مرة أخرى فى منزلى. كانت مازلت بيدى دبلة الخطوبة...ولاحظت انه أيضاً مازال
يرتديها. جلس بقرابة منى ولم ينظر لى اطلاقاً. كان ينظر للحائط معظم الوقت. كان
بصوته برود وألم! علمت انه جاء لينهى إرتباطنا. تنبهت كرامتى وأستغللت أرتباكه وبدأت
أنا الكلام. قلت له انى لا يمكننى الأرتباط به بعد الان. أكدت له انى أحبه بشدة
وانى لم أحب اى شخص اخر فى حياتى وبالتأكيد لن أحب اى انسان بعد الان. نظر لى نظرة
طويلة وقال انه لم يرد ان ينتهى أرتباطنا وانه جاء لى حتى يساندنى فى
محنتى...واعتذر لأنه لم يقف بجانبى فى الشهرين الماضيين ولكنه لم يتحمل ان يرانى
فى هذه الحالة اطلاقاً. أصررت انا على إبعاده عن حياتى مطلقاً. خلعت الدبلة من أصبعى
واعطته اياها وقلت له انى سعدت جداً به فى الماضى ولكن لابد ان تبقى صورة حبى كما
هى وألا أخدشها مهما كان الثمن...ولابد ان يبقى هو قوى صلب كعادته. قلت له انى أضحى
بحبى من أجله ولا أضحى به. تمنيت أن يفهم ما أقصده. وللمرة الثانية بكى فريدريك أمامى...لم
يتكلم...كان يشفق علىّ وكرهت هذا الاحساس! أخذ الدبلة وقبلّ يدى وانصرف...ولم اراه
منذ هذا اليوم ولم أسمع اخبار عنه.
لا أصدق ان نالا تقول
انى ضعيفة! إن كنت ضعيفة لكنت تمسكت به حتى النهاية. فى هذه الفترة كان قلبى محطم
وإرادتى تخبو يوماً بعد يوم. لم أمارس التمارين اليومية التى كان علىّ ان أفعلها...قيل
لى وقتها انها من الممكن ان تؤدى فى النهاية الى شفائى ولكنى لم اصدق ما قاله
الاطباء ولم أصدق اىّ شخص إنذاك. كان انهيارى سريعاً بعد انفصالى عن حبيبى. لم اذق
طعاماً لأيام عدة ولم أنم أيضاً. رفضت جميع الادوية وسددت أذنى عن النصائح الدائمة
المستمرة. كان كل تفكيرى منصب على ذكرياتى معه...تذكرت كل كلمة...كل نظرة...كل
وردة أهداها لى وكل مناسبة مررنا بها سوياً. عذبتنى ذاكرتى وعذبنى قلبى الملتاع
طويلاً. ولكنى قوية...قوية جداً...قوية لدرجة انى ضحيت بقلبى فى سبيل
كرامتى...ضحيت بمستقبلى فى سبيل ذكرى ماضى جميلة! ضحيت بالمجهول لأحتفظ بذكرى الماضى!
هل انا غبية؟ هل انا مغفلة؟ هل انا يائسة؟ ربما! ولكنى بالتاكيد أحيا!
الفصل الخامس عشر
بعد أسبوعين صحت مرام
على صوت تليفونها المحمول. كان رقم غير مسجل لديها.
-
"الو!" قالت
مرام وهى شبه نائمة.
-
"صباح
الخير!"
- "عمرو؟! أنت
عمرو!" صرخت مرام فى الهاتف وفى لحظة أصبحت متيقظة تماماً.
- "ازيك يا مرام؟ عاملة
ايه؟"
- "انت فين؟ انت كويس؟
ايه اللى حصل؟" لم تسعفها لهفتها فى تركيب جمل مرتبة.
- "انا كويس الحمد
لله" قال عمرو بهدوء شديد.
- "انت فين؟" بدأت
ترتب أفكارها قليلاً.
- "فى مصر!"
- "انت كويس؟"
- "ماتخافيش يا مرام!
انا الحمد لله كويس " هدوء عمرو أثار قلقها.
- "انت مشيت ليه؟!"
- "انا اسف! انا عارف
ان تصرفى كان غريب شوية بس غصب عنى. اتمنى ان والدك مايكونش زعلان منى لأن والله
كان لازم امشى فوراً"
- "ليه؟"
- "حاجة كده حصلت وكان
لازم امشى فوراً! انا اسف جداً على سفرى المفاجئ"
- "انت هاتيجى تانى
طيب؟" أمسكت مرام بالتليفون قويا الى أذنها متمنية ان يقول انه سيسافر اليهم
مرة آخرى.
- "مقدرش اجى تانى بعد
الموقف ده! انا مكسوف اكلم والد! انا عايز أعتذر عن اللى حصل بس مش عارف
ازاى"
- "عادى ياعمرو بجد!
مفيش حاجة خالص. انت زى أبنهم"
- "انا هاقفل دلوقتى
وهابقى أتصل بيكى بعدين. ماشى؟"
- "ماشى ياعمرو بس خد
بالك من نفسك وتعالى! بلاش الحساسية الزيادة دى"
- "ربنا يسهل! لا اله
الا الله"
- "مع السلامة"
مرت أيام بطيئة فى
انتظار مكالمة أخرى من عمرو. بعد عدة أيام أخبرت مرام أبيها بمكالمة عمرو لها
ولكنها لم تقل انه كلمها على تليفونها الخاص, قالت انه اتصل بالمنزل ليكلم ابيها
ويعتذر له عن سفره المفاجئ. أعتذرت بالنيابة عنه لأبيها. هدأ الاب قليلاً وبدأ
يقلق إن كان قد أصاب صديقه (والد عمرو) مكروه فأتصل بهم. كانت مرام بالقرب من أبيها
عندما اتصل بهم, كان قلبها يخفق...تمنت أن تسمع ما سيدور بينهم. أتصل الأب بصديقه,
لم تستطع مرام تفسير أى شئ يدور. مجرد كلمات مجاملة وبعض الاسئلة من جانب ابيها.
لم تفهم ماذا يقول الرجل الناحية الأخرى...بعد الانتهاء من المكالمة سألت مرام
ابيها بما دار بينهم. قال لها ان عمرو كان لديه ظروف خاصة بالإقامة وكان عليه ان
يغادر البلد على الفور. لم تقتنع مرام بهذا الكلام. سألت ابيها ان كان سيرجع عمرو
مرة أخرى لهم ولكن لم يعرف الاب ذلك. أغتاظت مرام بشدة لعدم إهتمام ابيها بالسؤال
او حتى ان كان سيقيم مرة أخرى لديهم.
كادت مرام تجن! كانت
تظل بجانب الهاتف ليلا ونهاراً متمنية ان يتصل عمرو مرة أخرى...ولكنه لم يتصل أبداً.
فكرت فى ان تتصل هى به ولكن دائما ما تراجعت فى آخر لحظة...لا تريد ان تفرض نفسها
عليه...كانت كرامتها فوق كل شئ كالعادة.
فات أسبوع تقريباً بعد
مكالمة أبيها لصديقه ولم يتصل عمرو. كانت تحاول الكتابة دائما ولكن لم يكن هناك اى
شئ ليكتب. كانت مذكراتها بالنسبة لها هى إنطباعات عن الحياة...ولكن يبدو ان الحياة
توقفت عند خروج عمرو من البيت. لم يكن لديها أى شئ تكتبه غير الماضى. كتبت عن
الماضى كثيراً...كتبت عن فريدريك وعن نالا وعن أيامها بالجامعة وبالمدرسة. كتبت
تغيراتها النفسية وإهتماماتها على مدار سنوات المدرسة والجامعة. كتبت عن البحر كثيراً...كتبت
عن السماء والطيور وعن كتب قراتها وهى صغيرة ومازالت تتذكر تفاصيلها. كتبت عن امها
وابيها وعن علاقتهم ببعض...كتبت انها تتمنى ان يكون لديها هذا الوفاء لزوجها مثلما
تفعل امها...تسألت ان كانت حقاَ ستتزوج! جرفتها هذه الفكرة الى كلام عمرو لها وعن
اطباعها هى عن حياتها. تسائلت إن كانت لحياتها قيمة...وجادلت وناقضت نفسها مرات
عديدة. تعتقد مرام ان لابد من فائدة لها فى هذا العالم...لابد ان يكون لها فائدة
غير الجلوس فى كرسى!! تسائلت عن معنى إصابتها! عن الحكمة ورائه...كان بالطبع هذا
السؤال مرتبط مباشرة بعلاقتها بالله...فكرت فى كلام عمرو لها. هل عاقبها الله
لانها رفضت شكره على النعم الكثيرة لديها من قبل؟ ولكن نالا لا تشكر الله على اى
شئ ومازالت تستمتع بحياة هانئة! تسألت ان كان القدر من وضع الله ام القدر هو من
صنع ظروف! وهل الله هو من يضع الظروف؟! شعرت بأنها ستنجرف فى مناقشات كافرة مع
نفسها...فمزقت الورقة الأخيرة المتعلقة بربها!
الفصل السادس عشر
كان عمرو مع صديقه أحمد
بحديقة أحد النوادى الرياضية بالقاهرة, كان صباح مشمس حار. كان عمرو مطلقا ليحته
وبدا شاحب الوجه وشارد الذهن قليلاً. كان صديقه يتكلم عن آخر أخبار فريق كرة القدم
الذى يشجعانه ولكن لم يكن عمرو مستمعاً اليه بأنتباه ولم ينتبه أن صديقه يسأله
شيئا.
-
"عمرو! انت رحت
فين يا عم؟ حاسس انى باكلم الشجر!" وكز احمد صديقة برفق.
-
"انا هنا
اهه!" قال عمرو منتفضاً قليلاً.
- "هنا ايه بس؟ ده انت
مش معايا خالص! طيب انا كنت بأقول ايه"
- "..."
- "صدقنى انا فاهم! بس
دى إرادة ربنا! وانت بقالك فترة على الحالة اللى انت فيها دى! انا مش بقول أنسى بس
على الأقل حاول تقف تانى!" قال احمد بصوت مفعم بالدفء والإهتمام.
- "ان شاء الله"
قال عمرو بصوت ضعيف للغاية.
- "عمرو! مش هاينفع
كده! انت سبت الدراسة بتاعتك وسبت البعثة اللى حاربت علشانها..التدخين وعدم الأكل وعدم
النوم ده مش هايعمل حاجة...انت كده بتنتقم من نفسك!"
- "احمد انت فاهم انا
كنت بحارب اخد البعثة دى علشانها مش علشانى...كانت هيّ الهدف الرئيسى فى حياتى.
كانت هي الطاقة اللى بدور بيها حياتى...هي النور اللى بمشى فى هداه فى الطريق
الصعب. كانت هى النسمة الوحيدة فى حياتى الجافة. كانت كل حاجة...عملت كل حاجة
علشانها...أستحملت الإهانة هنا علشانها وأستحملت بعدها وأنا فى إيطاليا
علشانها...دلوقتى هي راحت!! اعيش ليه؟ ايه فايدة أنى آخد كل الشهادات اللى فى
الدنيا وانا وحدى؟!" لمعت دموع عمرو من تحت أهدابة الكثيفة.
- "وحد الله!"
- "لا اله الا
الله!"
- "احمد ربنا"
- "..." لم يقل
عمرو شيئا.
- "احمد ربنا يا عمرو!
انت هاتكفر كمان برحمة ربنا؟"
- "الحمد لله!"
- "احمده كمان
مرة"
- "الحمد لله الذى لا
يحمد على مكروه سواه"
- "متعرفش ايه المستخبى
لنا! الحياة صعبة وغريبة وكلها حاجات عمرنا ما هانفهمها مهما عملنا! مفيش داعى إننا
ننسى ربنا فى أصعب لحظاتنا. انا فاهم ومقدر نهى كانت بالنسبة لك ايه...عارف كل
حاجة بس مش ممكن تدفن نفسك جنبها. كل اللى ممكن تعمله هو أنك تقرا لها قرآن وتدعى
لها. أدعى لها ان ربنا يغفرلها ويدخلها جنته"
- "انا بدعى لها كل
صلاه وكل اذان! انا مش بكفر بربنا ولا بعترض على قضائه...بس انا فى الآخر
بشر!"
- "انا فاهم
والله!" ربت احمد على كتف عمرو.
كان عمرو مرتبط بفتاة
قبل سفرة لإيطاليا...نهى...كانت ستتم خطبتهم حين رجوعه من البعثة. تقابلا عمرو
ونهى فى الجامعة...قضوا أربع سنوات وكل منهم يحب الآخر فى صمت...لم يفصح اى منهم
عن مشاعره للشخص الآخر حتى تخرجا من نفس الكلية. وفى حفل التخرج أفصح عمرو عن حبه
لها...باح لها أنه كتم مشاعره حتى يتخرج. وبكل بساطة قالت له نهى انها أيضاً تحبه
بعمق منذ بداية صداقتهم. وظلا معاً منذ ذلك اليوم...كان بينهم الكثير من الوعود والأكثر
من الأمنيات. كان حبهم هو الشئ الثابت القوى الذى لا يتحرك...هو الذى يشدهم الى
بعض وهو ما يساندهم فى محنهم. أشتغل عمرو معيداً بالكلية بعد التخرج لتفوقه. كان
حبه لنهى هو الدافع الحقيقى للمذاكرة والنجاح بتفوق, أشتغلت نهى بأحد الشركات
الخاصة. لم يكن مرتب عمرو يكفى لإقامة بيت أو حتى تغطية مصاريفه الشخصية فكان عليه
البحث عن عمل آخر بجانب عمله بالجامعة. نجح بعد البحث الطويل فى الحصول على فرصة
عمل كمحاسب فى مستشفى خاص بمرتب صغير. كاد الإحباط يدمره ويقضى على طموحه وعلى اى
معنى للمستقبل لديه. ولكن بقت نهى صامدة جانبه. كانت تشجعه بأنهم يجب ان يمروا
بمراحل شاقة كثيرة حتى يصلوا لبر الأمان. كانت ترفض كل من يتقدم لها وتبث عمرو بالأمل
والحب. كان يستمد قوته من ثقتها به...كان يستمد إيمانه بالغد من إيمانها به. هى من
شجعته للإلتحاق بالبعثة لإيطاليا...رفض عمرو الموضوع فى بادئ الأمر ولكنها أكدت له
فرص النجاح لا تأتى عدة مرات فى عمر الإنسان وعليه ان ينتهز جميع الفرص لينجح. فى
النهاية أقتنع برأيها وحارب كثيراً حتى يفوز بالبعثة لدراسة الماجستير بالخارج.
كان يبعث لها يومياً رسائل على طريق الانترنت وهى تفعل نفس الشئ. كان يقرأ رسائلها
عدة مرات ويتخيل صوتها يهمس الراسلة له.
اتفقا قبل السفر ان
يقرائا جزئا من القرآن كل يوم مهما كانت ظروفهم...كان كلام الله هو ما يربطهم...مع
كل أيه كان يتذكرها...يتذكر وجودهم بعالم واحد تحت سماء واحدة. كانت صلاتهم لا
تخلو من الدعاء للطرف الأخر بالصبر على الفراق...والدعاء للنفس لتحمل الفراق المرّ.
مرت عدة اسابيع وقلبهم يتمزق للفراق ولكن الأمل بالأرتباط كان يكبر ويأخذ شكلاً
اعمق. كان يقدر تضحيتها من أجله...وكان يخجل عندما يقارن بين ما ضحت به هى وبما
يقدمه لها. كان معتقداً انه لا يقدم أى شئ...بالمقارنة بما تفعله هى من أجله. لقد
رفضت العديد من المتقدمين لخطبتها وكان منهم ذات المركز والمال والعائلة الكبيرة
العريقة. كان يرى عمرو ان معظم المتقدمين لنهى يستحقنوها أكثر منه ولكن حبه لها
كان بالتاكيد أكبر وأعمق من أى مشاعر من الممكن ان تقدم لها يوماٌ ما.
كانت نهى ترى كل من
يتقدم لها ليس فى رجولة عمرو...ليس فى دفئه أو تحمله للمسئولية...ليس فى إيمان
عمرو...ليس فى مقدار عمرو بقلبها. كان حبها له يحكمه فكرة الرجل الشرقى...كان عمرو
يمثل لها نموذج الرجل الشرقى كما يجب ان يكون. كانت تشعر معه انها أنثى...وكان ذلك
يكفيها. كان حبها يفيض ليملأ قبله وقلبها سويا, لم يكن عمرو من النوع الذى يبوح
بما فى قلبه بسهولة...كان يعاملها بشئ من العنف أحياناً عندما تخطئ...كثيراً ما
كانت تتعمد الخطا حتى تراه وهو يؤنبها ويعنفها أحياناً...ولترى لمسة الخوف فى
نظرته وهو خائف ان تقع فى الخطأ نفسه مرة أخرى. كانت تشعر معه بالأمان والمعنى
الحقيقى للسعادة.
يوم خروج عمرو من بيت
مرام بايطاليا تلقى بالصباح مكالمة من صديقه احمد...لم يعتاد عمرو ان يكلمه اى شخص
اطلاقاً على هاتفه المحمول...فقط أعطى اصدقائه بمصر الرقم حتى يتصلون به فى الأوقات
الطارئة فقط. أندهش عمرو عندما رأى رقم احمد على شاشه هاتفه...أرتعشت يداه قليلاً
وأرتعش قلبه بعنف...
-
"ايوه يا احمد! فى
ايه؟"
-
"سلام
عليكم!" قال احمد بصوت مخنوق.
- "وعليكم السلام! فى
ايه يا احمد؟ فى حاجة حصلت؟"
- "انا باطمن عليك
بس!" قال احمد.
- "فى ايه؟ ايه اللى
حصل؟ حد حصله حاجة؟" سأل عمرو بفزع.
- "تقدر تيجى
مصر؟"
- "ليه؟!!"
- "نهى تعبانة شوية ومن
الأفضل أنك تيجى تشوفها"
- "نهى؟!!! مالها نهى؟
ايه اللى حصل؟ تعبانة ازاى؟" كاد قلب عمرو يقف من فرط الإنفعال.
- "تعبانة شوية وتعالى
يا عمرو!" لم يشأ صديقه الإدلاء بأكثر من ذلك.
- "فى ايه؟ رد عليا
عدل!! ايه اللى حصلها؟ انطق!!" فقد عمرو صوابه تماماً.
- "حصل لها حادثة! هى
دلوقتى فى المستشفى!"
- "حادثة؟ حادثة ايه؟"
- "عربية ضربتها فى
الشارع! هى فى المستشفى! تعالى شوفها قبل..."
- "قبل ايه؟" كادت
رئتيه تتوقف أيضاً.
- "قبل ما يفوت
الوقت!!!"
- "مستشفى ايه؟"
لم يستطع احمد بالإدلاء
بتفاصيل أكثر مما قاله لعمرو بالهاتف. كانت نهى بالمستشفى فى العناية المركزة.
ضربتها سيارة مسرعة أطاحت بها ونتج عنها نزيف حاد داخلى وكسر بالعمود الفقرى
والحوض والكثير من الرضوض والجروح والكدمات والكسور أيضاً. أسرع عمرو بحجز مكان بأول
طائرة لمصر. ومن المطار أتجه الى المستشفى فوراً. جرى الى الاستعلامات وعرف
مكانها. وفى لحظة كان على باب غرفتها وكان الزيارة ممنوعة عنها. كان احمد وعائلتها
بخارج الحجرة لم يتمكن من قول اى شئ...كانت سمات وجوههم تكفى لمعرفة خطورة الموقف.
حاول الدخول لها ولكن رفض الاطباء الزيارة تماماً عنها لخطورة الحالة. عرف من
المحيطين بها خطورة حالتها وعرف ما حدث بالظبط. انشق قلبه نصفان وكل نصف اخد
اتجاها ضد الآخر.
رفض مغادرة
المستشفى...رفض التحرك بعيد عنها...رفض فكرة إبتعاده عنها حتى تخرج. حوالى الساعة
التاسعة أنصرف أهلها وأنصرف عمرو ولكنه لم يغادر المستشفى. كان ينتظر مغادرتهم حتى
يتمكن من الصعود مرة أخرى ليظل بجانبها. أعطى صديقه حقاَئبه ليوصلها لمنزله وظل هو
خارج الحجرة يردد آيات القرآن حتى يطمئن قلبه وحتى يشفيها الله. أشفقت عليها
الممرضات وتركنه خارج حجرتها ولم يطلبن منه المغادرة لمخالفته قواعد المستشفى. فى
النصف الثانى من الليل تسلل عمرو داخل حجرتها. رآها وفى لحظة أُستبدل قلبه بحجر
ثقيل وعقله بكرة من النار وأعصابه من خيوط العنكبوت! كانت داخل قميص من الجبس
والكثير من الضمادات والكثير من الاجهزة موصله بها ومحاليل معلقه فوقها. ولكنه
لاحظ شئ يلمع فى وجهها...كانت عينيها...كانت متيقظة. فى غمضة عين كان
بجانبها...نظرت اليه ولم تتكلم...ولم يتكلم...اخذ يرتشف بعينيه من وجهها ليروى
عقله واشتياقه. نظرت هى اليه ولمعت عيناها أكثر.
-
"ماتخافيش! انا مش
هاسيبك أبداً قبل ما تخرجى! هافضل جنبك على طول"
-
"..."
- "ربنا هايقومك ان شاء
الله قريب خالص...جايز ده حصل علشان اجى اشوفك" حاول الابتسام ولكن دموعه
تساقطت بلا إراده.
- "اول مرة اشوفك
تعيط!" قالت نهى بصوت رقيق وضعيف.
- "هاتخرجى ان شاء الله
قريب جداً"
- "عمرو انت لسه
بتعيط!" نبهته نهى بضعف بالغ.
- "واول ما تخرجى
هانتجوز على طول! وهاخدك معايا ايطاليا ومش هاسيبك أبداً"
- "انت خايف ليه
كده؟"
- "مش خايف!" قال
عمرو بصوت متهدج ضعيف.
- "عايزاك قوى...حتى لو
مت...اوعى تزعل عليا...انت أقوى من كده"
- "متقوليش كده!"
وانهمرت دموعاً أكثر.
دخلت عليهم ممرضة وطلبت
منه الخروج على الفور, طلب منها خمس دقائق فقط ولكنها كانت قاسية ونبهته انه ينتهك
الكثير من قواعد المستشفى بهذه الطريقة. القى نظرة اخيرة على نهى قبل خروجة من
حجرتها:
-
"عمرو!" نادت
عليه نهى بصوت مخنوق.
-
"نعم يا
حبيبتى؟"
- "ادعى لى!"
خرج من حجرتها واخذ فى
البكاء الصامت والدعاء لها وترديد ايات من القران. فى حوالى الساعة الخامسة
صباحا...توفت!
عندما علم الخبر أيقن أنها
كان فى صحوة الموت فى الساعات القليلة السابقة. أيقن انها كانت تعلم انها
ستموت...وطلبت منه الصمود والدعاء لعلمها بموتها. لم يدخل حجرتها عندما فاضت روحها...ظل
بخارجها ينتفض من شده الإنفعال...لم يتكلم...لم يبك...شعر كأن كل شئ به مخدر...كل
شئ به فاقد الإحساس...كأن شعوره أصبح ترابا ورياح عاتيه أطاحت به. كل ما أستطاع
عمله هو الخروج من المكان بأسرع وقت. لم يشعر بقدماه يخرجانه من المستشفى...مشى
على غير هدى بالشارع والذهول يحركه. مشى طويلاً ولم يشعر...بكى كثيراً فى النهاية
ولم ينتبه انه يبكى...لم يشعر بأشخاص يمرون به فى الشارع...لم يشعر بالسيارات
والضوضاء والمارة.
مشى ساعات طويلة وفى
النهاية جلس على مقعد خشبى بأحد الحدائق العامة. كان بعقله دوامة من المشاعر
المضطربة واللاشعور فى نفس الوقت. الساعات القليلة الماضية شهدت بركان لم يشهده من
قبل ولم يكن يتوقعه. مر به رجل عجوز يحمل خرطوم. كان عامل بالحديقة...راقب عمرو قليلاً
ثم أقترب منه...جلس بجانبة ولكن لم ينتبه عمرو له. مد الرجل يده وربت بها على
كتفه...التفت له عمرو وبعينيه ذهول.
-
"مالك
يابنى؟" سأله الجناينى العجوز.
-
"..."
- "لا اله الا الله!
مالك يا بنى؟ فى ايه؟ حد سرق منك حاجة؟"
- "مش عارف" قال
عمرو كأنه فاقد الوعى.
- "انت كويس؟"
- "..."
- "حاجة ضاعة منك؟ شكلك
مصدوم اوى"
- "عمرى كله ضاع"
- "لا حول ولا قوة الا
بالله! أسمك ايه؟" رق قلب الرجل لحال عمرو.
- "عمرو!" قال
عمرو وهو ينظر للهواء.
- "مالك يا عمرو يابنى؟
أنت لسه شاب...عمرك ايه بس اللى ضاع؟"
- "..."
- "وحد الله" قال
الرجل بصوت شجاع.
- "لا الله الا
الله".
- "وصلى على النبى
كده".
- "عليه الصلاة
والسلام".
- "مالك بقى؟ فى
ايه؟".
- "ماتت!" قال
عمرو ونبرة الذهول لا تغادره.
- "هى مين؟
والدتك؟" قال الرجل وهو متأثر.
- "لا! نهى!"
- "نهى مين؟ اختك؟
خطيبتك؟"
- "نهى ماتت!"
قالها عمرو كأنه صدم لأول مرة بالحقيقة...خروج الكلمات منه جعلت الحقيقة واقع
مؤلماً.
- "الدوام لله
وحده"
- "نهى ماتت!
ماتت!" وبكى عمرو بصوت مسموع.
ربت الرجل على كتفه وأخذ عمرو بين ذراعيه كأنه
طفل فقد أهله جميعاً...أرتفع نشيج عمرو ورق قلب الرجل لحال الشاب المصدوم. ترك
الرجل عمرو يبكى حتى فرغت عيناه من الدموع ولم يبقى أى منها ليبيكه.
- "أنت ساكن فين؟"
سأل الرجل عمرو بعد أن هدأ قليلاً.
- "مصر الجديدة"
قال بصوت واقعى أكثر مما قبل.
- "وأيه اللى جابك
هنا؟"
- "مش عارف"
أوقف الرجل سيارة أجرة
لعمرو وأوصى السائق على الشاب. وصل عمرو إلى منزله ولم يكن معه نقود ليدفع
السائق...ولكن دفع له بواب العمارة. أستقبله البواب بكثير من الترحاب ولكن لم
يلتفت عمرو اليه...كأن صوت الرجل أتى من السماء لا يستطيع تمييزه. لا يعرف كيف دخل
عمرو منزله وكيف أستقبله أهله ولم يتذكر ما قالوه له ولا كيف دخل حجرته.
لم يحضر عمرو جنازة
نهى...لم يحضر العزاء...لم يعزى أهلها. ظل
نائماً ساعات طويلة وحبس نفسه بحجرته ولم يكلم أى شخص ولم يأكل أو يشرب...ولم
يصلى! حتى جائته أحمد بعد ثلاث أيام من العزلة التامة. غصب على عمرو أن يأكل...ذكره
أنه قضاء الله وأنه بذلك يعترض على قضائه. أجبره على الخروج معه...أجبره على فك
العزله عن نفسه. أخذه وقابلوا الكثير من أصدقائهم...حاول أصدقائه كثيراً ان يخرجوه
من حالته ولكنه كان يقاوم. شعر أنه إن فرح أو قلّ حزنه على نهى أنه يخونها. تذكرها
فى كل لحظة...تذكر آخر كلمات لها وكان لا يكف عن الدعاء لها.
كان احمد ملازماً له.
بعد انتهاء ساعات العمل كل يوم يتوجه احمد إلى منزل عمرو ويجلس معه او يفرض عليه
الخروج. كان عمرو يقاوم ولكن صديقه كان يصر ويصبر عليه. وفى يوم أنهار عمرو تماماً...بكى
كالأطفال...كان هذا ما يريده الصديق...أن ينهار صديقه ويبكى بكاءاً حارقاً...كان
يعلم أن عندما يحدث هذا سيتمكن من مساعدة صديقه. بعد ان هدأ تكلم معه احمد بشئ من
العقلانية.
-
"عمرو! كان ممكن
تتجوز نهى وهى مشلولة؟" باغته احمد بالسؤال.
-
"ايه؟" لم
يتسوعب عمرو مفاجأة السؤال.
- "نهى لو كانت
عاشت...كان أحتمال كبير جداً تكون مشلولة. كنت هاتقدر تتجوزها؟ وجاوب من غير عاطفة"
لم يتوقع عمرو هذا اطلاقاً.
ولكن فوجئ بصورة مرام ترتسم أمامه... كانت نهى هاتكون بهذه القسوة على نفسها زى
مرام؟ كانت هاتفرض على نفسها العزلة والاكتئاب؟ كانت هاترضى بيا وتدوس على
كبريائها؟ كانت هاتكون زى مرام فى إهمالها لصحتها؟ كانت هاتكفر بقضاء الله؟ كانت هاتحمد
ربنا؟ كانت هاتبقى يتيمة الرضا زى مرام؟... فكر عمرو قليلاً ولم يتوقع أن يكون
القدر بهذه السخرية...أن يريه صورة مستقبل نهى فى شكل حياة مرام...ولكنه شعر أنها
رحمة من الله به حتى لا يعذب نفسه أكثر.
-
"كانت هاتبقى زى
مرام" قال عمرو بلا تفكير.
-
"مرام مين؟؟"
حكى له عمرو عنها وشعر بكم من الفظاظة لتركه لهم
بلا تبرير...بلا شكر...بلا تنبيه. كلمها على الفور وفى وجود احمد. كانت مكالمة
قصيرة ولكنه شعر أن جزء صغير للغاية من نهى حىّ موجود فى صورة مرام. كان يعرف تماماً انه تحت تأثير الصدمة ولكن لم يمنع
ذلك من شعوره أنه يكلم شبح نهى
to be continued...
ريم اسامة
No comments:
Post a Comment