Tuesday 31 December 2013

نعمل حفلة...ولا فلوس على الارض؟

كل سنة وانتوا بخير وسعادة...يا رب تكون سنة حلوة ورايقة ومتدلعة كده...لحسن السنتين اللى فاتوا كانوا حاجة غم! 
ناس كتير بتحب تخرج ليلة راس السنة...مش تقليد الغرب ولا بيتمسحوا في الاجانب ولا اي حاجة...مجرد فرحانين بسنة جديدة وامل انها تكون حلوة ومليانة خير وفلوس وصحة وحظ احلى.
في بيت بابا وماما دايما بنحتفل بليلة راس السنة...الحقيقة يعنى انا من اسرة بتعشق الاحتفالات بشكل عام...زمان (ايام الروقان) كانوا بيحتفلوا بكل حاجة وكان ناقص يحتفلوا بأول الاسبوع :) طبعا اعياد ميلادنا...العيد الكبير والصغير....كذا عزومة في رمضان...مولد النبي...شم النسيم...عيد الام....عيد راس السنة الهجرية....عاشوراء...والتخرج من الجامعة...وطبعا راس السنة الميلادية...غير ان كل ويك اند كان لازم نعمل "منظر" بمعنى نجيب كيس كبير لب وسودانى وعشا مختلف ونختار فيلم او مسرحية نتفرج عليها سوا...والله العظيم من احلى الذكريات...وفي الشتا نجيب البتاع اللى بيتكسر ده اسمه ايه....البيكان! ونجيب الزرادية ونكسر (وطبعا لازم نفرم الحشو اللى جوا) ونجرب في غيره...ومن طقوس القعدة دي ان القشر في الاخر يدخل في رجلينا!! :)
والله كانت ايام جميلة (ومازالت الحمد لله) واحنا طلعنا زيهم....بنحب الاحتفالات (اول عيد ميلاد لابني الكبير عملته اربع مرات...اه والله العظيم اربع مرات!! ده الملك فاروق معملش كده!! حفلة كبيييرة لاهل...حفلة كبيرة الى حد ما للاصدقاء...حفلة صغيرة في بيت اهلي..حفلة صغيرة في بيت اهل جوزي....محدش يتريق والنبي علشان كل ما بفتكر الفلوس اللى طرقعناها على عيل مش فاهم اصلا اتقهر)
المهم...قصدي من الرغي ده كله انى اقول....بلاش نكد! اي مناسبة حلوة استغلوها واعملوا احتفال...اي هبل في اي بتنجان...لما يجي رمضان هووووب اشتري فانوس وفرعين نور وشغليهم وعيشي جو الاحتفال....راس السنة هاتي شجرة صغيرة وزينة وبابا نويل وطراطير (مش تشبه بالغرب...احنا بنقتبس منهم روح الفرحة بس)...لو فى العيد هاتى كيسين بمب محترمين وفرقعي ولا يهمك...اعياد الميلاد لااازم بجد تحتفلوا....مش بدعة ولا غيره...احنا بنتحجج باي حاجة علشان بس ننبسط...نفرح....عيد جوازك اخترعي له طقوس وصممي عليها كل سنة...عيد ميلاد عيالك...اعزمي انشالله شوية ناس قليلة بس ازرعي جوا اطفالك ثقافة الاحتفال! 
والله صدقوني دي مش فلوس على الارض....احنا بنشتري السعادة.
حد يطول يلاقي السعادة بفلوس ويرفض؟
عمر ما الحفلة كانت فلوس على الارض ابدا...على الاقل ده في اعتقادي الشخصية (والعائلي - كلنا كده)...السعادة بتتضاعف لما بنشاركها...والحزن بيتقسم لاجزاء صغيرة لما بنشاركه...المشاركة هي المفتاح!
شاركي الناس فرحتك باطفالك (نجاحهم او اعياد ميلادهم)....شاركي الناس بانتقالك لبيت جديد واعملي حفلة افتتاح او تدشين البيت (كان نفسي اعمل الموضوع ده بس جت لي الفكرة متاخر) ... في شم النسيم ممكن تعملي تجمع في بيتك للمقربين مع بوفيه من اكلات المناسبة دي (المشكلة الوحيدة هي حالة التناحة اللى بعد الاكل والبصل)....اعزمي الناس على عشا شرقي (اورينتال:)) في بيتك مش هاتكلفك كتير وهاتي كل الاصناف بقى زي الفول والطعمية والبصارة والبتنجان والسلاطة وخلافه...محدش هايعترض...بالعكس...الناس هاتنبسط انك جمعتيهم....او اعملي يا ستي طقم بيتزا (نوعين او تلاته بيتزا في البيت هاتكفي الناس)....ولا هاتقولي فلوس في الارض برضه؟
المشكلة بقى ان لما الواحد بيكون متحمس اوي لتجميع الناس ممكن يلاقي حد يقوله "وانت تبهدل بيتك ليه؟ واشمعنى فلان مايعزمش؟ ما بيته اكبر"...لو قررتي تعملي تجمع في بيتك ولقيتي الشخص السلبي ده....نصيحة...متعزميهوش!!!
افرحوا يا جماعة...احنا بنعيش مرة واحدة بس....خلي الناس على الاقل تفتكركوا بحاجة كويسة وانكوا كنتوا بيت الود وجمع الشمل.
كل سنة وانتوا طيبين وفي احسن حال وفرحة 


ريم اسامة
https://www.facebook.com/groups/329904227056535/

Thursday 19 December 2013

بالسم الهاري

مشكلة كبيرة بتواجه الستات لما تقرر تعمل اكل حلو....الاكل الحلو يعنى مجهود. اصل في رجالة مش بيعجبها الاكل السهل! متخيلين ان الاكل السهل او اللى مش بياخد وقت في الطبيخ يبقى اكل وحش على طول! او ان الست بتستسهل! وبيقدر اوي بقى الاكل اللى الولية تقف على رجلها بالساعات تعمله! كده يبقى منشكح ومبسوط!!
ايه علاقة طعم الاكل بالوقت؟ الاجابة دي عند الراجل وحده لا غير!!!!!
وايه برضه العلاقة بين الاكل الحلو والمجهود....نفس الاجابة عند نفس الشخص!
يعنى مثلا هانقول اكلة زي المحشي! مشكلة فعلا ومجهود علشان حلة تتاكل في ربع ساعة باقصى تقدير! وكمان ممكن مايعجبوش على فكرة مش شرط يعنى تقفي ويطلع لك كاللو في كعبك وفي الاخر يعجب! خالص!!
يوم ما تجيبي فراخ مشوية من برة...كده انتى تستاهلي الدبح! انتى هاتستعبطي؟؟؟ فراخ جاهزة؟ "اه ما انتى بتوفري مجهودك!!" 
ولو حصل وجبتي فعلا اكل جاهز هايطلب برضه تدخلي المطبخ تعملي حاجة: نفترض جبتي فراخ مشوية هايطلب تعملي جنبها مكرونة ولو جبتي مثلا سمك مشوي هايطلب تعملي رز احمر في البيت علشان مش بيحب بتاع بره او يطلب سلاطة طحينة علشان مش بيحب بتاعة الراجل او بيقرف منها...او يطلب منك تعملي سلاطة (مرار كل ست بيت)!! ومش هاننسى طبعا حبيبنا الاذلي صاحب الفرافيت المميتة "العيش البلدي اللى لازم يتسخن على النار" - ماله الفينو مش فاهمة!! 
ولو في يوم وقلتي لجوزك ياكل تونه علشان انتى تعبانة/كنتى في الشغل/ ملحقتيش تعملي اكل من العيال....امة لا اله الا الله هاتعرف انه كل تونه...مع ان اليوم اللى قبله كنتى عاملة اكل كويس بس هوا بيجي عند التونة وبيفضح الدنيا...يتصل بمامته ويقول اي هبل ويقولها اه لسه متغدي..كلت تونه!! طيب لازمته ايه؟ تقولها ليه اصلا وهيا مالها؟ لكن ازاااااااي لازم الفضيحة تبقى عالمية انك خلتيه ياكل اي كلام هايف "يا هانم"!!
ولو عملتي عدس فرجالة كتير بتعتبر ده نوع من الشوربة...طبق جانبي يعنى...زي شوربة لسان العصفور كده...ماينفعش تبقى الغدا! (مش كل الرجالة بصراحة بس كتير منهم).
لو عملتي كشري غالبا مش هايعجبه او هايتعامل مع الغدا انه "ارديحي" وانك ضحكتي عليه اليوم ده...مع ان الكشري ده ممل جدا في عمايله...حلة للعدس والرز...حلة للمكرونة...حلة للصلصة....حلة للحمص...بصل محمر...ومفيش مانع من عدس معمولين لوحدهم لزوم المزاج!! وفي الاخر مش هايرضى ياكله على العشا علشان انتى كده هاتحرقي قلبه من البقوليات!!!! (ده لو مقالكيش بتاع برة احلى)
ولو حصل ومامتك حبيبتك عملت لك حلة محشي او صينية مكرونة بشاميل او مثلا صينية رقاق...هايقولك "اعملي لنا بقى جنبها شوية لحمة محمرة"!! هوا حرام الست ترتاح يوم من المخروب المطبخ؟؟ حرام يوم تريح صوابعها من البصل والتوم والنار؟ هوا لازم ندخل المطبخ؟ انا ساعات بحس ان الست اتكتب كتابها في فرن بلدي مش عند مأذون!! زي ما يكون بياخد بباقي فلوسه خدمه!! مش ممكن كده!!
ومثلا لو انتى متعودة تجيبي الخضار متنضف جاهز (عادي حقك على فكرة) او لو كنتى شاطرة شوية وبتعملي ممبار وبتجيبيه متنضف اوي مش محتاج مجهود منك اضافي او بتجيبي الخرشوف متنضف بدل ما تجيبيه شكل الصبار وبدل ما ايدك تسود وضوافرك تسيبك وتهاجر وجلد ايدك يدعي عليكي...المواضيع دي بتغيظ الرجالة اوي...بيتضايقوا اوى ان الست عايزة تريح نفسها....الله؟ حقها!! حد يلاقي الراحة ويرفض؟ هوا الراجل مش بيريح نفسه برضه؟ فين الراجل اللى بيشيل كوباية مكانه ولا بيسخن لنفسه عيش او بيغسل قمصانه على ايده زي ما بيطلب من الفلبينية مراته؟ فين؟ مفيش!! يبقى الراجل بيريح نفسه على قفا الست....خلي الست يا سيدي تريح نفسها على قفا جيبها!! هيا حرة!!
ولما ياكل يسئل "ده اللى جبتيه من ام محروس" (اللى بتنضف الخضار)...كل مرة لازم يسئل نفس السؤال مع انه عارف بس برضه لازم يسئل....ولازم يقولها انها غلط وانه مش فارق معاها صحتهم علشان هيا مش ضامنة الادوات المستعملة في تنضيف المحشي او الممبار وخلافه... وكله كوم والملوخية الاكياس كوم اخر...بتجيب لبعض الازواج جلطة خفيفة!! لازم الست تجيب الملوخية وتقطفها وتغسلها وتنشفها وبعدين تديها بالمخرطة لحد ما يطلع لها عضلات السباحة!! 
وفي رجالة مش بتحب الفراخ المجمدة...لازم بتاعة الفرارجي!! ليه طيب؟ ما كلها كائنات ربنا...ايه الفرق؟ "انا مش باكل المجمد اللى طعم البلاستيك ده!!" ... سبحان الله!!!
نرجع ونقول مش كل الرجالة...بس والله بجد كتير جدا بيتأمروا على الاكل لمجرد ان المجهود اللى مبذول فيه مش على المستوى اللي يريحه كراجل!
بصوا بقى...اللى جوزها مش بيتأمر على الاكل يا ريت ماتشتكيش منه في اي حاجة وتبوسي رجلك وش وضهر...واللى جوزها بيتأمر بطلي تقولي له في سرك (بالسم الهاري)....على الاقل صفَي نيتك اهو تطلعي لك بثواب عند ربنا...ربنا يرحمنا!!

ريم اسامة
https://www.facebook.com/groups/329904227056535/

Monday 16 December 2013

رواية النبضات الصامتة: الفصول 23 و24 و25 و26 و27 (النهاية)




الفصل الثالث والعشرون
        استلمت مرام العمل وكان طبيعة عملها هى السكرتارية. لم يكن السكرتارية هو عملها الحقيقى ولكنه مسمى أنيق قليلاً عن الحقيقة...كانت مسئولة عن كتابة المستندات والمذكرات والخطابات على الحاسب الآلى! أيقنت ذلك بعد يومين من عملها ولكنها لم تهتم. كانت تعلم أن دخولها مجال العمل سوف يجعلها مختلفة...سوف يخرجها من محنتها ولكنا كانت على يقين أنها خرجت من محنتها بالفعل. خرجت من فترة مظلمة جداً فى حياتها...فترة كرهت خلالها كل شئ حتى نفسها. تمنت أشياء كثيرة بعد مرور بضعة أيام من عملها...لم تحب عملها ولكنها لم تكرهه. كانت تتمنى شئ أعمق من ذلك ولكنها حالة خاصة وتعلم ذلك. فى بادئ الامر كانت محرجة جداً من حالتها... ولكن زملائها كانوا لطافاً معها. لم يحرجها أحد باسئلة كما كانت تتوقع...لم تلاحظ اى شفقة فى عين أى منهم وأسعدها ذلك كثيراً. كانت نشيطة للغاية وكانت تنجز ما يولى اليها من أعمال بأسرع وقت ممكن وكانت دقيقة جداً...لم يكن عملها شئ يستغل طاقاتها ولكن تصميمها على إتقان أى شئ مهما كان تافهاً يشبعها داخلياً.
مذكرتى العزيزة
        سعيدة جداً! حقاَ سعيدة! لم أكتب تلك الكلمة منذ بدأت الكتابة...حتى مذكراتى أصبح بها دمائاً جديدة. عملى تافهاً ولكنى لا ابالى...إنى سعيدة وهذا يكفى. أعمل "تايبست" ولكن لا يهم...لم أتوقع الكثير على أى  حال...لم أتوقع إيجاد فرصة عمل! أشعر كأنى أرمم نفسى...أشعر كبناء عتيق أثرى مهمل وفجأة تم إكتشافه...وبدأت بترميم شكلى الخارجى...إشتريت الكثير جداً من الملابس وغيرت لون شعرى وشكله. أشعر بالثقة وانا انظر للمرآة كل يوم. أشعر بنضارة بوجهى...هل للسعادة تأثيراً على ملامحنا؟ أعتقد انها كذلك.
زملائى بالعمل لم يعاملونى على انى معاقة أو انى مختلفة...إطلاقاً! أشعر إنى ارمم نفسى بالداخل أيضاً...سأرمم ثقتى اولاً ثم سأواجه باقى عيوبى التى أكتسبتها خلال السنوات الاخيرة. حان الوقت لأرصدهم جميعا:-
-       أكره الناس! نعم أكرههم ويجب التخلص من ذلك الكره لأنى أعيش وسطهم وإن لم أحبهم لن أستطيع حب نفسى...لأنى منهم!
-       لا اثق بنفسى كثيراً مثلما كنت من قبل! سأعيد ثقتى بنفسى مرة أخرى! نعم سوف أعمل على ذلك كثيراً وسريعاً.
-       أفضل الإنعزال عن الإختلاط. أشعر إنى أفضل الجلوس إلى نفسى عن الإختلاط بغيرى...حتى عائلتى!
-   اميل للكئابة...جداً! أكره الفترة المظلمة التى أمضيتها بين هذه الجدران والشباك الوحيد بها! الكئابة كانت اللون السائد لحياتى لفترة طويلة...لا أعلم ان كنت سأستطيع تغيير هذا ام لا! ولكنى أكره الحزن الأن...أريد السعادة والفرح والإنطلاق خارج الصندوق!
-   أفضل الكتب عن الأشخاص! أفضل الأشياء عن الناس! لأنى ببساطة أخافهم! أخاف نظراتهم...أخاف كلماتهم الجارحة...أخاف عدم تقبلى للجلوس معهم...أخاف رفضهم صداقتى...أخاف الإستهانة بى أو أخذى كشئ مسلم به! أخافهم جداً جداً!
        بأى شئ أبداً؟ هل أبداً بنفسى أم بالناس؟ هل أبداً بحب نفسى أم بحبهم؟ أبداً بثقتى بنفسى ام بثقتى بغيرى؟ عقلى يقول أبداً بنفسى أولاً ولكنى اخاف ان اقضى باقى حياتى احل مشاكل عقلى فقط دون الإلتفات لغيرى!!!
-------------
يوم الاربعاء كان عيد ميلاد أبيها. صممت مرام على إقامة حفل له، دعت نالا وقليل من أصدقاء أبيها. كان حفلاً صغيراً ولم يعارض الاب إقامة حفل عيد ميلاد له بالرغم من كرهه الإحتفال به لإعتقاده أن مثل تلك الحفلات للأطفال او الشباب فقط...ولكنه لم يرد إحباطها. شكرها كثيراً على مجهودها لدعوة اصدقائه وشكرها على الهدية واسعده كثيراً تخطيها جزء كبير من محنتها.
صممت مرام على ان يحضر عمرو الحفل...رفض فى بادئ الأمر وقال لها انه يفضل عدم فرض نفسه على حدث عائلى.
-   "بس انت واحد مننا دلوقتى يا عمرو، علشان خاطرى لازم تيجى...مستحيل تكون عايش معانا ومتكونش فى حفلة صغيرة فى الدور اللى تحت مثلا! ايه التهريج ده؟" قالت مرام مستنكرة.
-   "علشان خاطرى أنا بلاش! بصراحة أنا عايز أكون لوحدى. متزعليش منى علشان بقول كده بس فعلاً مش عايز اكون سخيف فى يوم زى ده. دمى هايكون تقيل اوى"
-       "ولغاية امتى؟" سألته مرام مستنكرة.
-       "لغاية أمتى ايه؟"
-   لغاية امتى هاتفضل كده؟ لغاية امتى هاتحبس نفسك جوه الجدران؟ لغاية امتى هاتبكى على اللى راح؟ انا عارفة اللى راح شئ كبير جداً! بس على الأقل تقدر تدعى لها. أحمد ربنا إنها ماتت...أفضل من انها تعيش بعاهة."
-       "..." لم يستطع قول اى شئ.
-   "عمرو! تحب حبيبتك تكون مع الملايكة ولا تكون مع بشر مفيش حاجة أسمها رحمة معاهم؟ تحب تكون بأجنحة ولا تكون بعاهة؟ تحب تكون من الضوء ولا من الظلام؟ تحب تكون سعيدة ولا تكون المادة الخام للتعاسة؟ تحب يكون قلبها برئ ولا مليان حقد؟ تحب ايه؟"
-       "مرام الكلام مفيش أسهل منه"
-       "والبكاء اسهل من الكلام!"
-       "نهى كانت كل حاجة بالنسبة لى! كانت الهواء والشمس والنور والايمان"
-       "بس نهى مش الله!!"
-       "ايه؟" صدم للجملة.
-       "نهى مش الله! نهى مش هى اللى بتحييك وبتميتك! الله أحياك وانت بتموت نفسك بسببها! هو ده الحال حالياً"
-       "مرام! كفاية! أرجوكى كفاية"
-   "عمرو انت أقوى من كده بكتير جداً! صدقنى! مش متخيلة اللى انت بتعمله فى نفسك ده! معقول انت اللى كنت بتكلمنى عن المعنى الحقيقى للحياة؟ انت اللى كنت بتكلمنى عن يتم الرضا؟ عن إرادة الله؟ عن شكر الله على المصائب قبل الفرح؟ بلاش تخيلنى أعتقد إنك انسان منافق! أرجوك بلاش تغير فكرتى عن انسان أعتقدت تماماً فى كلامه وصدقت كل كلمة فيه! بلاش تخلينى أصدق ان  الدنيا كلها زائفة! انت عايش فى غيبوبة! فوق منها ارجوك! انت اقوى منى ومن ناس كتير اوى! بلاش تفقد ايمانك بالله على الأقل علشان ربنا يسمع دعائك لها ويستجيب له!"
-       "..." دمعت عيناه ولم يعلق.
-   "عمرو انت لازم تعرف ان كل حاجة بتتولد صغيرة اوى وبتكبر...ماعدا الحزن...بيتولد كبير جداً جداً وبيصغر بعد كده لغاية ما يكون ذكرى. مفيش حاجة أصعب من اللى مريت انا بيه. مفيش أصعب من فقدانك كل شئ فى لحظة فى بداية حياتك...فقدان كل شئ حتى إيمانك بنفسك! فكر شوية فى نفسك! ربنا عايز كده! انا عارفة انك بتقول لنفسك دلوقتى انى منافقة لأنى أنا نفسى كنت غير مؤمنة بأى حاجة حتى بنفسى...بس انا مثال حىّ ان الدنيا لازم تمشى...لازم كل حاجة ترجع للمسار الطبيعى تانى! انا تعبت كتير أوى فى حياتى...عشت السنين الأخيرة معتقدة ان الحياة وقفت وطردتنى منها بقسوة...كنت متخيلة ان رحمة الله لم تشملنى...ان قلبى ضمر ولم يبق داخلى غير قطعة من الحقد والكره...ان ضميرى لا يرى غير إعاقتى...ان عقلى توقف عند كتابة ما أمر به من مشاعر! الحياة ليست كلمات على ورق ولا إستقبال نظرات الشفقة ولا تعاطفى مع نفسى أحياناً ولعن الحياة أحياناً أخرى! بعدما قررت ان اخرج من حالتى الكئيبة رأيت الحياة سعيدة مرة أخرى...رايت ما لم اره من قبل...قبل الحادث كنت ارى الدنيا من خلال عين شخص آخر...من خلال عين من أحبه قلبى...كنت ارى الدنيا لأنه بها...ولكن بعدما أصبحت وحدى رأيت الدنيا من وراء جدار مصمت من الزجاج...ولكنى الأن أرى الدنيا وأنا على الشاطئ...اراها جميلة صافية ورائعة! أعلم ان كلامى ممل الى حد كبير ولكن هذا هو ما أشعر به وأردت ان أقوله لك لربما تشعر بحاجتك ان تخرج مرة أخرى للدنيا"
-   "مش عارف أقولك ايه! بس انا مش متخيل الحياة وانا وحدى! نعمة كبرى أنك قادرة على ترجمة ما تشعرى به لكلمات! كنت بالماضى قادر على ده ولكنى فقدت كل طاقة لدى للحياة!"
-   "واضح ان الكلام معاك ملوش لازمة! انت قافل عينك وودنك وعقلك! أنا مش هاطلب منك حاجة أكتر من انك تحضر الليلة!"
-       "حاضر!"
-       "شكراً! عن اذنك!"
-       "مرام!" نادى لها قبل مغادرتها الغرفة.
-       "نعم؟!"
-       "مبروك على الشغل!" أبتسم لها ابتسامة صغيرة.
-       "شكراً!" أبتسمت له ابتسامة كبيرة.
سعدت مرام كثيراً بتجمعها مع عائلتها ومع اصدقائهم. علاقتها بنالا لم ترجع كما كانت ولكن مرام لا تريد أكثر من احتفاظها بنالا ضمن أصدقائها. شعرت مرام أنها اقوى من نالا! لم تشعر بذلك من قبل ولكن سبب هذا الشعور هو إرادتها القوية. لم تكن نالا ذات إرادة مثلها...واجهت مرام عيبوها الشخصية وحاولت التغلب عليها ولم تفعل نالا  ذلك اطلاقاً! وعرفت مرام جميع عيوب نالا ولم ترد ان تظل صديقتها الأقرب...مرام تريد أشخاصاً يجادلوها...يحترموا عقلها قبل أى شئ...تريد أصدقاء أقوياء الغرادة ويكون لهم شخصيات مستقلة...تريدهم انداداً لها!
ذهبت للعمل اليوم التالى وهى مفعمة بالسعادة والتفاؤل...لم تعرف لذلك سبب ولكنها كانت أكثر سعادة مما قبل. قابلت زميلا لها وتبادلوا حديثا قصيرا:
-       "شكلك مختلف النهاردة شوية" قال باولو.
-       "لا أبداً!" أبتسمت مرام.
-       "أحتمال بس شكلك مختلف عن أول يوم جيتى فيه".
-       "ممم...مش عارفة!" خجلت مرام جداً لقوله. لم تعرف حتى إن كان يقصد انها أجمل ام أقبح!
-       "الرقم الداخلى بتاعك كام؟" .
-       "1498!!".
-       "اوكيه! سلام".
-       "سلام".
لم تعط تلك الحادثة الصغيرة إهتماماً, كانت سعيدة ولم يهم تفاصيل صغيرة لتجعلها أكثر سعادة...سعادتها كانت كبيرة ولم يهمها أى شئ آخر. مضى يومان ولم يتغير صفو مزاجها...لم تفكر كثيراً فى مدى تفاهة عملها ولكن بالنسبة لها كان العمل سبباً لتقابل المزيد من الأشخاص...سبباً لتكوّن صداقات...لم ترد العمل من أجل العمل او ملئ وقتها وتقليل الساعات التى تتخيل فيها حياتها بلا إعاقة او تذكر حياتها قبل الحادث. قابلت العديد من الزملاء ولكن لم تكون صداقات بالطبع...لم تظل بالمكان وقت كافى لتكسب ثقة الناس حولها وتتحول تلك الثقة الى زمالة ثم الى صداقة. لم تفقد صبرها...كانت سعيدة بالتجربة وشعرت انها انسانة كاملة ومختلفة تماماً.
فى هذا اليوم تلقت مكالمة داخلية من باولو:
-       "صباح الخير" قال باولو.
-       "صباح النور"
-       "عأملة ايه؟ انا باولو"
-       "كويسة وانت عامل ايه؟"
-       "تمام!"
-       "فى حاجة أقدر اقدمها لك؟" سألت مرام.
-       "لا مفيش"
-       "..."
-       "هاتعملى ايه النهاردة فى ساعة الغدا؟"
-       "ولا حاجة"
-       "بتروحى فى مكان معين ولا بتفضلى فى المكتب؟"
-       "بافضل فى المكتب"
-       "عندك مانع أشرب معاكى قهوة النهاردة وقت الراحة؟"
-       "لا أبداً! مفيش مانع"
-       "اشوفك الساعة واحدة"
-       "اوكيه!"
لم تعرف كيف تتصرف عندما يأتى إليها باولو فى فترة الراحة...اقدم له قهوة ولا هايجيب القهوة بتاعته معاه؟...فكرت مرام. اقدم له حاجة ولا لا؟ اجيب له كيك او اى حاجة مع القهوة بتاعته؟ اتصرف ازاى؟ اتصرف زى مايكون فى بيتى ولا احنا فى عمل واحد وأنه ييجى مكتبى مش معناه انه فى زيارة لى؟!...لم تعرف كيف تتصرف فى مكان العمل...لم تتعود على ذلك. كانت الساعة الثانية عشر والربع...كانت جائعة للغاية ولكن شعرت بالخجل الشديد عندما تخيلت نفسها تأكل أمامه...لم تعرف لما ولكنها تخلت عن فكرة الطعام فى المكتب وزميلها معها...قررت ان تشرب قدحاً من القهوة أيضاً. كنت الساعة الواحدة والعشر دقائق عندما رنً التليفون بجانبها, كان باولو.
-       "مرام! تحبى تشربى قهوة ولا شاى ولا شيكولاتة سخنة؟" باغتها باولو.
-       "اه...انا معايا قهوة"
-       "لا لا! سيبى القهوة اللى معاكى دى...تحبى تشربى ايه بس؟"
-       "أنت بتتكلم منين؟ فى صوت عربيات عندك"
-       "ايه العند ده؟ بقولك تشربى ايه؟...خلاص بلاش تقولى...أنت بتحبى القهوة بتاعك ازاى؟ بتحبى سكر ولا لا فيها؟"
-   "لا بشرب القهوة من غير سكر خالص" قالت مرام وهى تضحك. لم تعرف ماذا تقول او ماذا تسأل...فأختارت ان تجاوب عليه.
-       "بتحبى عليها لبن؟"
-       "لا"
-       "اوكيه! بتحبى الشيكولاته؟"
-       "(تضحك) انت فين؟"
-       "المفروض أقول السؤال كام مرة علشان تجاوبى؟"
-       "(تضحك بشده) ثلات مرات"
-       "بتحبى الشيكولاتة؟ بتحبى الشيكولاته؟ بتحبى الشيكولاته؟ جاوبى بقى" ضحك باولو.
-       "انت سألت أربع مرات كده"
-       "دايماً بحط عنصر أمان" ضحك باولو.
-       "(تضحك) بحب الشيكولاتة!"
-       "سلام"
-       "(تضحك) سلام"
بعد ربع ساعة أخرى وصل باولو الى مكتبها ومعه صندوق وكوبان من القهوة. دخل المكتب...نظر اليها وأبتسم ابتسامة واسعة...وضع القهوة والصندوق على مكتبها وجلس على كرسى أمامها....فتح العلبة وكان بها جاتوه وقطع كعك محلاة بالسكر. جذب القهوة الخاصة به وبدأ يأكل ويشرب.
-       "انت مش هاتشربى القهوة؟" سألها باولو.
-       "(تبتسم) شكراً!"
-       "على؟"
-       "القهوة!"
-       "والجاتوه لأ؟ مفيش شكراً؟"
-       "(تضحك) شكراً على الجاتوه"
-       عارفة لو قلتى شكراً تانى على حاجة أجيبها هازعل!"
-       "ليه؟"
-   "انا كده! انا طلبت انى أجى آخد القهوة معاكى...يعنى انا اللى أقول شكراً انك حققتى لى طلب! وبعدين لما اجيب حاجة من نفسى محبش حد يشكرنى عليها...لأن دى إرادتى انا...ده مش طلب مثلاً من حد وانا بنفذه! فاهمة قصدى ايه؟"
-       "..." لم تقل شيئا ولكن ابتسامة واسعة جداً بدت على وجهها. لم تعرف ماذا تقول...انه يتكلم بمنطق ما.
-       "ايه اللى بيضحك؟" سألها باولو وابتسامته لا تذبل.
-       "ولا حاجة! بس متوقعتش الإجابة دى!"
-       "لو توقعتى كل حاجة من الناس يبقى مفيش داعى أنك تعيشى معاهم!"
-       "ازاى؟" كان يصدمها بكلامة.
-       "اشربى القهوة وانا أقول لك. وبعدين انا جعان...هاكل وبعدين أتكلم"
شربت مرام ما احضره لها ولم تأكل...كانت خجلة ان تاكل معه...او تاكل من طعامه...أعتبرت ما أحضره طعامه هو ولا يصح ان تشاركه إياه.
-       "انت مش بتاكلى ليه؟"
-       "بصراحة مش جعانة! شكراً"
-       "اوكيه!"
-       "انت بتشتغل فى ايه هنا؟"
-       "باشتغل فى قسم الإتصالات"
-       "ومبسوط فى الشغل؟"
-       "لأ!"
-       "لا؟ طيب بتشتغل ليه؟"
-       "علشان أجيب فلوس"
-       "الفلوس مش كل حاجة!!" جادلت مرام.
-       "قولى الكلام ده لصأحب الشقة!"
-       " (تبتسم) بس لازم يكون فى حاجة تخليك تصحى الصبح وتيجى هنا! مفيش حاجة خالص بتحبها هنا؟"
-       "بحب الناس هنا! بحب ساعة الراحة...بحس انى استحقها للغاية...بحب نهاية الاسبوع"
-       "انت بتيجى الشغل علشان كده"
-       "اه!"
-       "والشغل نفسه؟ انت بتحب الحاجات الفرعية كلها وسايب الأساس؟"
-       "وانت بتحبى شغلك؟"
-       "بحبه طبعاً!"
-       "بتحبى فيه ايه؟"
-       "..."
-       "سكتى يعنى؟"
-       "انا لسه جديدة هنا ومعرفش ان كنت هاحب الشغل فعلاً بعد كده ولا لأ"
-   "الفترة ملهاش علاقة بحبك للشغل او لا...الفترة ليها علاقة بحبك للناس وأرتباط بالمكان...إنما طبيعة العمل بتظهر من أول يوم"
-       "على الأقل مش بكره شغلى"
-       "انت اتخرجتى من كلية؟"
-       "ايوه!"
-       "كليه ايه؟"
-       "درست تاريخ!"
-       "تاريخ؟ وايه علاقة التاريخ باللى انتى بتعمليه هنا؟"
-       "ولا حاجة!"
-   "ومش صعبان عليكى اللى درستيه؟ مش صعبان عليكى المجهود اللى بذليه فى الكلية علشان فى الآخر تشتغلى على آله كاتبه؟"
-       "..." شعرت مرام بشئ يلتو بداخلها.
-       "انا اسف! انا مش بقلل من قدرك...بالعكس انا عندى شعور انك أذكى من انك تشتغلى كده!"
-       "فى ظروف بتفرض نفسها علينا" قالت مرام بإقتضاب.
-       "طبعا! انا مقدرش أقول حاجة فى النقطة دى...بس تعرفى..."
-   "من غير مقاطعة كلامك...الساعة بقت اتنين وخمسة...مش عايزة المديرين يقولوا حاجة عن اى حد فينا...وانا لسه جديدة واكيد مش عايزة إنطباع المدير عنى يختلف. انا اسفة...بس انت فاهم"
-       "طبعا فاهم. شكراً على وقتك وعلى استماعك" أبتسم باولو...ولكن بدا عليه الاحراج.
-       "انا متشكرة على الحديث ده...وعلى القهوة والجاتوه"
-       "العفو!"
مذكرتى العزيزة
كنت اليوم بالعمل وعزمنى زميل لى على القهوة وجلس معى وقت الراحة كله. أشعر انه يتقرب لى ليعرفنى ولكنى كالعادة...كنت قاسية معه للغاية. كنت سخيفة وثقيلة الظل. أشعر بالذنب للطريقة التى عامتله بها.
ساذهب اليه الآسبوع القادم لآعزمه كما عزمنى...ولكن هل سيفسر ذلك تفسيراً خاطئاً؟ هل سيفسر ذلك انى معجبة به...او ارد له العزومة حتى لا يكون بيننا صداقة...او انى لا أحتمل شخص مثله ان يعزمنى على اى شئ ولذلك ارد له ما فعله؟ لا أعلم.
لم أفكر فى عمرو اطلاقاً طيلة هذه الفترة وذلك يعد غريبا فعلاً علىّ! ترى ما حاله الان؟ هل أكلمه مرة أخرى ام أتجاهله؟ هل أحاول إخراجه من محنته تلك أم أتركه يتعامل معها وحده؟ هل أصدمه بالواقع كما كان يفعل معى حتى يتنبه انه لا طائل مما يفعله بنفسه وحياته؟ ماذا أفعل؟ ماذا أقول؟ أعلم ان كلامى المرة السابقة كان قاسى اوى...هل أحاول معه اللين هذه المرة؟ سأحاول!!

الفصل الرابع والعشرون
كانت نهاية الاسبوع ولم يمهلما الاسبوع لتتمكن من تصفية الموقف مع باولو...لم تفكر بذلك كثيراً على أى حال. فكرت في كيفية قضاء نهاية اسبوع مختلفة عما قبل. نامت كثيراً...كان هذا شئ طبيعى لأنها غير متكيفة على العمل والمجهود. ظلت معظم أجازتها نائمة...وعندما تستيقظ تتكلم مع امها عن العمل وعن الأشخاص الذين تعمل معهم...عن مواقف العمل وعن ملابسها وأشياء كثيرة من هذا القبيل. كانت امها سعيدة للغاية وهى ترى ابنتها تخطو وحدها نحو عالم مستقل وصحى.
قررت ان تتكلم مع عمرو مرة أخرى وتحاول ثانية معه ليخرج من تلك الحالة. كان بابه مفتوحاً ورائحة السجائر منبعثه منه. دخلت بلا ان تطرق على الباب.
-       "تسمح لى أدخل" قالت مرام ببشاشة.
-       "طبعا! اتفضلى" كان عمرو يرتب بعض أغراضة بالدولاب.
-       "بتعمل ايه؟"
-       مفيش! بوضب الدولاب شوية! مش لاقى حاجات كتير فى وسط الكراكيب دى"
-       "معلش ولا يهمك! وضب حاجاتك وهاتلاقى الحاجة الضايعة"
-       "ان شاء الله!"
-       "بس انت احسن كتير من قبل كده على فكرة."
-       "الحمد لله!"
-       "انت شكلك كده نجحت فى الامتحانات."
-       "امتحانات؟"
-       "اه! مش انتوا عندكوا امتحانات برده؟"
-       "اكيد اه! بس مفيش دلوقتى اى امتحانات. هى فعلاً على الابواب بس مش دلوقتى."
-       "ربنا معاك!"
-       "ان شاء الله!"
-       "انت هاتعمل حاجة بعد ما تخلص الدولاب وكده؟"
-       "هاذاكر!"
-       "طيب ينفع تاخر المذاكرة شوية؟"
-       "فى حاجة؟"
-       "هاعزمك بره! ايه رايك؟"
-       "تعزمينى ليه؟ فى حاجة؟"
-       "لا عادى! مش احنا اصحاب؟"
-       "اكيد"
-   "خلاص! انا دايما باعزم اصحابى اللى بعزهم...وانا بعتبرك من اصدقائى المقربين علشان كده انا عايزة اعزمك على اى حاجة بره"
-       " (أبتسم) شكراً يا مرام"
-       "على ايه؟ ها؟ تحب نتغدى فين؟"
-       "اى مكان! بس العزومة دى عليا انا!"
-   "طبعا لا! انا اللى اقترحت وانا اللى هاعزمك ومفيش كلام فارغ من اللى انت بتقوله ده! وبعدين انا هاعزمك على الغدا...ابقى اعزمنى انت على سفرية لمصر" ضحكت مرام.
-       "بس كده؟ من عينايا!"
-       "انا بهزر! تحب ننزل الساعة كام؟"
-       "ادينى ساعة كده أجهز فيها واكون خلصت اللى بعله ده"
-       "ماشى! تحب اساعدك فى اى حاجة؟"
-       "لا شكراً! انا  قربت اخلص خلاص"
-       "ماشى! ساعة كده وننزل"
بعد ساعة كانوا بالطابق السفلى. أستاذنت مرام  امها فى ان تاخذ مفاتيح السيارة...قادها عمرو بالطبع. ذهبوا الى وسط المدينة ...أرادت ان يكون الجو العام مشجع على الكلام ولهذا أختارت مطعم للوجبات السريعة.
-       "تاخد ايه بقى؟" سألته مرام وهى تقرأ قائمة الطعام.
-       "مش عارف! هاتكلى انت ايه؟"
-       "انا عايزة بيتزا"
-       "وانا كمان هاكل بيتزا"
تبادولوا أحاديث سطحية ولكن مرحة...حاولت إضحاكه بكل الوسائل. حاولت إخراجه ولو مؤقتاً من حالة الحزن الشامل الذى يعيش داخلغ. وجاء الطعام وتكلمت معه عن عملها وعما فعلته مع باولو...ضحك كثيراً واكد لها انها لم ولن تتغير.
-       "انتى كده! مستحيل هاتتغيريى...اى حد يقرب منك لازم تبعديه...يابنتى بطلى بقى وخليكى عادى" قال عمرو.
-       "ده انا؟ انا اللى بابعد الناس عنى! امال انت بتعمل ايه يا أستاذ؟" ضحكت مرام
-       "انا؟ انا مش بعمل كده"
-       "لا طبعا بتعمل كده"
-       "ازاى؟" تجهم عمرو قليلاً وتجاهلت مرام ذلك.
-   "انا وانت دلوقتى بنتبادل الاماكن...بمعنى انى دخلت العالم مرة تانية بعد ما كنت رافضاه وانت بتنسحب منه علشان بدأت ترفضه..فاهم قصدى ايه؟ فواجبى نحوك كصديقة انى أقولك هاتلاقى ايه فى ضل الحياة اللى هاتعيش فيه...وانت واجبك كصديق تقولى هالاقى ايه فى الدنيا اللى بقالى كتير بعيد عنها. دلوقتى انت بتقول انى مش المفروض انى ابعد الناس عنى...دى نصيحة لأنك تعرف عن الحياة اللى بره أكتر منى...وانا بدورى لازم افهمك ان العزلة شئ صعب اوى...وهاتعيش فى الضل لغاية ما تصبح انت ضل نفسك...هاتفقد شخصيتك الحقيقية...هاتغطيها بالتراب وفى النهاية هاتصبح انت نفسك تراب...بلا معنى ولا لون ولا حياة ولا شخصية. عمرو انا خايفة عليك بجد...العزلة شئ من سهل...هو أسهل الحلول فعلاً بس مش سهل تفضل فيه صدقنى" تكلمت مرام بكل كيانها...كانت كلماتها مغلفة بكثير جدا من الحنان والدفئ...ولمس دفئها قلبه وتحرك للمعنى.
-   "مرام! كفاية! انا عارفة حياتى بقت عاملة ازاى...ومتيقن تماماً للحالة المزرية اللى وصلت لها. انا مش بانسحب من الدنيا زى ما انت فاهمة...خالص"
-       "عارف اللى بتقوله ده...ليه كلمة واحدة فقط!"
-       "ايه؟"
-       "كبر!! نفسك فيها كبر كتير لدرجة انك حتى مش عايز تعترف بحقيقة الحالة اللى انت فيها!"
-       "أحتمال"
-       "والاجابة دى كمان كبر!"
-       "مش عارف أقولك ايه"
-       "متقولش...ايه رايك فى الاكل؟" لم تحاول مرام الضغط عليه أكثر من ذلك.
بعد الانتهاء من الغداء عزمها عمرو على القهوة فى مقهى بجانب المطعم. وذهبا بعد ذلك للسينما، كانت بها فيلم رعب...لم تدخل مرام السينما منذ زمن بعيد وكذلك عمرو أيضاً! ضحكا كثيراً للمناظر المرعبة المفتعلة بالفيلم...كان فيلماً سيئاً للغاية ولكنهما ضحكا كثيراً وذلك جعل الفيلم ناجح جداً بالنسبة لها.
بدأ أسبوع آخر بالعمل. ذهبت مرام للعمل والنشاط بداخلها يحترق بشدة...فكرت فيما يجب فعله مع باولو حتى لا تخسر اى شخص من الممكن اي يكون صديقاً لها. قبل موعد الراحة اتصلت به.
-       "صباح الخير" قالت مرام
-       "صباح الخير! مين معايا؟"
-       "مرام! عامل ايه؟"
-       "كويس!" قال باولو بلا إهتمام
-       "ممكن تاخد القهوة معايا النهاردة؟"
-       "مش عارف! أعتقد ان عندى شغل كتير النهاردة ومش هاينفع اروح فى اى حته!"
-       "ممممم! اوكيه. سلام"
-       "سلام"
أيقنت مرام ان باولو غاضباً منها...قررت شراء قهوة وساندوتشات وتذهب لمكتبه وقت الراحة...قررت ان يكون فور بدء الفترة حتى لا يذهب الى اى مكان. وبالفعل فعلت ذلك...اشترت قهوة وساندوتشات من كافيتريا الموجودة بالعمل وذهب لمكتبه.
-       "تسمح لى اكل معاك؟" قالت مرام بكثير من المرح.
-       "اكيد" قالها باولو بعد  قليل من التردد.
-       "اتفضل" وضعت الطعام أمامه على المكتب.
-       "شكراً!"
-       "انا عارفة انك زعلان منى! وعارفة انى كنت قليلة الذوق اوى آخر مرة! انا اسفة!"
-       "لا أبداً! انا مش زعلان"
-   "لا زعلان! انا بحب آصحابى دايماً يواجهونى باخطائى ويزعلوا منى لو زعلتهم. مش من العدل انى ازعل منهم وهما مايزعلوش!"
-       "(يضحك) فعلاً! صح! انا فعلاً زعلان منك...وكنت ناوى منكونش اصحاب اصلاً"
-       "ودلوقتى؟"
-       "لا اكيد اصحاب" ضحك لها واخذ القهوة واكل معها.
تكلما فى شئون العمل قليلاً...كلمها عن عمله وطبيعته...كلمها عن حياته وإهتماماته...لم يفرغ أبداً من الكلام...كان هناك دائما شيئا لطيفاً وشيقاً يقوله او يشد به انتباهها...كلمها كثيراً عن الحياة...كانت الحياة بالنسبة له واحة جميلة يراها هو من فوق فرع شجرة متدلى فى المياة. كانت سماء حياته مليئة بالطيور والسحب البيضاء الصغيرة. كلمها عن الفن...عن الفلسفة...عن الغد...عن المستقبل المستمد ألوانه من الماضى. كلمها عن ذكرياته وقراراته المهمة فى حياته التى افسدت عليه كثيراً من الأيام وكان يضحك لهذا كثيراً وطويلا. كان متفائلاً للغاية...متفائلاً لدرجة عدم الواقعية.
تكلما لمدة ساعتين...لم تنتبه مرام لمرور الوقت...لم تنتبه انها بددت وقت العمل فى الكلام...لم تنتبه ان الموظفون جميعاً على مكاتبهم يعملون ماعدا هى وباولو...لم يهتم باولو بذلك أيضاً. كان باولو يعيش من اجل اللحظة فقط...يعيش اليوم...المستقبل يتكلم عنه فقط لأنه حقيقة وليس لأنه يشئ يخافه او يحسب له حساباً. الحياة بالنسبة له فى منتهى البساطة...السعادة والتفاؤل هما عنوانه. كان التناقض التام لمرام...كان اللون الآخر بالنسبة لها...كانت الظل وكان هو النور...كانت حياتها عميقة وحياته فى منتهى البساطة...كانت حياتها تشمل ظلالا عدة وكانت حياته تشمل ألوان كلها بهجة.
ذهبت مرام لمكتبها ولم تعرف لما كانت تفكر كثيراً فى باولو...لم تفكر فيه كأحد الأصدقاء أو على انه شخص تنجذب اليه...ولكنها بدأت تقارن بينه وبينها...كان كلامه بالفعل لطيف جداً وشيقاً ولكن...كان به الكثير من السطحية...الكثير من الا مبالاه...لم تعرف لما شعرت ذلك ولكنه بالتاكيد هناك جزء كبير من السطحية فى كلامه. كلمها عن الفلسفة ولكنها شعرت انها فلسفة مستعارة...فلسفة شخص آخر وهو معجب بها ولكن لا يؤمن بها. مرام لا تتكلم الا عما تؤمن به وتكره الكلام المفرغ من المصداقية.
ذهبت البيت وتلقائيا قارنت بين باولو وعمرو! لم يكن من العدل المقارنة بينهم...لأنها لا تعرف زميلها بالعمل إلا من بضعة أيام ومن لقائين فقط بالمكتب. ولكنها كانت على يقين ان عمرو أكثر عمقاً وصدقاً وايماناً من صديقها الجديد. بعد ساعة من التفكير السريع والمقارنات الغير واقعية ومقارنة نفسها بعمرو وبباولو... حسمت رأيها على ان باولو لا يمكن ان يكون أكثر من صديق فى العمل...فقط!
ذهب لعمرو وحكت له ما حدث:
-       "انتى غلطانة يا مرام على فكرة!"
-       "ليه؟!!"
-   "غلط تفضلى فى مكتب واحد معاكى فى الشغل فترة طويلة وخصوصاً فى غير مواعيد الراحة...كده الكلام يكتر حولك او على الأقل إشاعات ممكن تطلق حولك"
-       "طبعا لا! احنا كنا بنتكلم عادى...وفى المكتب يعنى مش فى مكان منعزل مثلاً"
-       "مرام! انا بنصحك كصديق...بلاش تخدى كلامى بالدفاع المميت ده"
-       "انا مش بدافع!! انا بوضح لك الصورة"
-       "انا فاهم...بس برده خدى بالك"
-   "وبعدين يا عمرو...خلينا واقعيين...انت فاهم ظروفى...باولو مش ممكن مثلا – او حتى غيره – يفكر فيا بطريقة غير اننا نكون زمايل فى الشغل"
-       "ظروف ايه؟!" لم يفهم ما كانت ترمى اليه صديقته.
-   "انا مش انسانة كاملة يا عمرو! أنا نصف انسانة...يعنى معاملتى مع الناس مش محتاجة ان يكون لها حواجز من الخوف من كلامهم او الإشاعات او كده...لأن ده مش ها يحصل"
-   "مرام!! اوعى تقولى الكلام ده تانى!! انتى انسانة كاملة...انتى أكتر من كاملة...انت انسانة بجد! الانسان مش جسد...الجسد ده مجر اطار احنا بنعيش فيه...مش أكتر...المهم الجوهر...المهم انتى من جوه...ولو هانحكم بالشكل يبقى كلنا اشباه بنى ادمين مش بنى ادمين كاملين...بس لو حكمنا بالجوهر...انتى هاتكونى من أفضل الناس اللى ربنا خلقها"
-       "انت بتجاملنى زيادة عن اللزوم. على العموم شكراً على النصيحة" ابتست له مرام ولكن كانت عينيها تبرق بشده.
الفصل الخامس والعشرون
        ظلت مرام يقظة طوال الليل...تفكر بعمرو...مرة اخرى! كانت مرام أرتاحت الى ترجمة المشاعر بداخلها أتاجهه على انها صداقة. ولكن يبدو انها كانت تخدع نفسها. لم تظل طويلاً بسريرها...فكرت فى بساطة كلماته وقوة المعنى...فكرت فى تفاصيل علاقتها بعمرو...كانت الكلمة هى ما يجمعهم...كانت الأفكار البسيطة هى التى تربط صداقتهم ببعض...معنى الرضا...معنى السعادة...معنى الإيمان...كلمات بسيطة ومعانى كبيرة ولكنها فى النهاية معانى مطلقة نقولها ولا نعرف ترجتمها الحقيقية او حتى نربطها بباقى حياتنا. كانت أكثر الأشياء بغاضة الى قلب مرام هى عدم ربط جوانب حياتنا ببعضها. نتكلم عن السعادة ولا نعلم ما يسعدنا فعلاً...نتكلم عن الرضا ونثور على أقل شئ يصيبنا...نتكلم عن الإيمان ولا نرضى بالقدر...كانت تفكر فى هذا الاتجاه وتشعر انها أيضاً تفعل ذلك...كانت تلوم البشرية لغبائها ولكنها فى النهاية...أكثر غباءاً منهم جميعاً. غبائها كان فى ضياع سنوات من عمرها لأنها رفضت تقبل الواقع والرضا بما قسمه الله...كانت غير متصالحة مع نفسها وغير مؤمنة بقضاء الله...تلوم الغير وتنسى نفسها...يا لى من مخادعة!... تحولت كل تلك الأفكار الى أفكار أكبر...معانى أعمق فى عقلها...تحولت كل المشاعر الى ثورة صامتة بداخلها...حاول كتابت ما شعرت به فور تمكنها من ترجمة مشاعرها الى كلمات. ولكن  هل مشاعرها إتجاه عمرو يمكن ترجمتها الى كلمات؟ هل بالفعل تغيرت مشاعرها اتجاهه من إعجاب أنثى برجل إلى مشاعر أخوية؟
مذكرتى العزيزة
المارد بداخلى استقيظ...كنت على اعتقاد راسخ انى قتلته!! لقد أستيقظ...وهزنى...زلزلنى... نفض الغبار عن عينى...اغتاظ المارد لتصدع قلبى...مقتنى وخلع قلبى من بيته واعاد تشيكيله. قلبى ايها الكائن المسكين...سوف أمزقك مرة أخرى...اسفة...ولكنى لا أملك عقلى وأملكك انت! عقلى يملى على قتلك مرة أخرى ولكنك ضعيف مثل صاحبتك...ضعيف مثل إرادتها فى العشق....ضعيف مثل أعصابها ومنهك من كثرة احتباسك بداخلى تضخ دماء باردة فى عروقتى...وعندما حان الوقت لتزويدى بدماء ساخنة ملتهبة مثلك...قرر عقلى قتلك!!! اسفة...سامحنى!!
-------------
        شعرت مرام بكثير من الراحة بعد كتابتها تلك الكلمات...خرجت من حجرتها ونادت على دياموند بصوت خافت ولكنه لم يسمعها...نزلت الطابق السفلى وايقظته...اخذته معها لحجرتها ونام هناك...نام بجانب سريرها...شعرت انها تخون دياموند لعدم إهتمامها به قدر إهتمامه بها...كانت فكرة مضحكة شعورها بالذنب اتجاه كلب...ولكنه كان شعوراً صادقاً للغاية وكان كلبها كافى ليشعرها ان هناك مخلوق يحتاجها لترعاه...إحتياجها لهذا الشعور كان عميق...شعورها بأن هناك كائن يعتمد عليها ويستمد منها قوة او قدرة على الحياة اعطاها شعوراً جارفاً بالرضا والإشباع.
        نامت مرام ورأت فى منامها الكثير من الصور المختلطة...صور من الماضى والحاضر وصور من خيالها...أستيقظت وحاولت تذكر اى شئ ولكنها فشلت...فقط تذكرت شعورها فى الحلم...كانت سعيدة...كانت راضية...كانت تمشى!!
        لم تذهب للعمل فى هذا اليوم وظلت طوال اليوم بصحبة دياموند بحجرتها...ترتبها وتعيد ترتيب أغراضها جميعاً...فكرت فى ان تعيد طلاء الحجرة...فكرت فى أن تعيد ترتيب الأثاث بها...فكرت فى أن تغير الجحرة كلها. فكرت فى الحجرة السفلية...فكرت فى ان تنقل حجرة المعيشة إلى حجرتها والعكس...فكرت فى ان تأخذ حجرة عمرو ويأخذ هو حجرتها. غمرها الشعور بالملل من كل شئ ولكنها أكتفت بترتيب دولابها.
لم يخرج عمرو فى هذا اليوم أيضاً ولكنها لم تعرف ذلك وهو لم يعرف انها بالمنزل. كان عمرو مشغول للغاية ببحث يعده للامتحانات النهائية بالسنة الأولى للماجستير. كانت المذاكرة تلتهم كل وقته وكل تفكيره. وكان جزء من تفكيره منصب على ما يجب فعله بعد الإنتهاء من الامتحانات. كان يشعر بعبء كبير لأنه يعيش فى بيت لا يصرف فيه شئ او يتكفل بنفسه فى مطعمه على الأقل. بعد ساعات من المذاكرة وساعات أخرى من الترتيب من جانب مرام خرجت هى من حجرتها وشاهدت فيلم وبعدها بقليل خرج عمرو لياخذ راحة من المذاكرة.
-       "ايه ده انت هنا؟" دهشت مرام.
-       "ايه ده! انتى كمان هنا...انتى مرحتيش الشغل؟"
-       "لا!"
-       "ليه؟ تعبانة؟"
-       "لا خالص... بس زهقانة من الشغل"
-       " (يضحك) زهقتى؟ انتى لحقتى تزهقى؟" جلس بجانب دياموند على السجادة.
-       "عايزة بصراحة أسيب الشغل"
-       "بتهرجى!! ليه؟ حصل حاجة؟"
-       "لا أبداً! بس عايزة أدور على شغل غيره"
-       "ليه؟"
-   "مش عارفة! حاسة انى ممكن أعمل حاجة أحسن من كده بكتير. مستحيل يكون كل التعليم ده وكل القراءة دى وفى النهاية اكون عاملة آله كاتبه" قالت مرام بتهكم.
-   "مش عارف يا مرام بصارحة أقول لك ايه! بس دى بداية...وانتى لسه فى البداية مش هاينفع مثلاً تحددى من دلوقتى إذا كان وضعك هاستمر على كده فى الشركة دى على طول...إحتمال يكون لك شأن كبير ان شاء الله فى المستقبل بس البداية ضعيفة شوية"
-       "لا! انا مش عايزة أفضل فى الشغل ده! حاسه أنه بقى عبء على كرامتى!" قالت مرام وشئ من الكبرياء ملأ صوتها.
-   "كرامتك؟ هو وصلت للكرامة؟ (أبتسم ابتسامة واسعة) انتى يا مرام يا يمين يا شمال؟ انتى مفيش عندك وسط؟ الشغل المهين هو إنك تكونى خدّامة فى مكان ما...او شغلك ينتج عنه إمتهان لعقلك وكبريائك. بس الشغل بتاعك مش كده خالص...انا معاكى انه مش لائق بمستواكى التعليمى والفكرى كمان...انتى عقلك أكبر من إنك تكونى تايبست...بس دى بداية...كل الناس بدايتها بتكون ضعيفة...ده مش عيب...العيب هو انك تفضلى ضعيفة...العيب انك تنسى الهدف الأكبر...إن الصورة ككل تضيع من خيالك...انك تفضلى متمسكة بالقليل اللى فى ايدك خوفاً من أن كل حاجة تضيع منك وفى النهاية متلاقيش حتى القليل اللى انت كنتى متمرده عليه. صدقينى أنت صح...شغلك صح...تفكيرك صح...بس انتى متسرعة شويتين...الصبر"
-   "مش قادرة اصبر. انا فضلت تلات سنين صابرة على حاجات كتير اوى...حاجات بره ايدى وفى ايدى...صبرت على ضياع أحلامى...صبرت على تغيير حياتى...صبرت على تغيير جلدى...صبرت على عواصف عقلى...على نوبات غضبى...على ثورات طموحاتى...على كل حاجة...لما جه الوقت وبقيت مرة تانية قادرة على إدارة حياتى بشكل شبه مستقل...مش مستحملة انى أبدأً ضعيفة...عايزة أبدأً بقوة وأفضل قوية...انت فاهمنى؟"
-   "فاهمك...فاهمك كويس أوى" نظر لأعلى ليلتقى بعينها...نظرت لأسفل لتقابل عينيه...التقت أعينهم وكأن هناك شعاع من الضوء بينهم...هى تستمد منه إيمانه وهو يستمد منها قوتها...كانت بحاجة إلى اعتقاد راسخ ان الحياة درجات وليست صحفة ممدودة...وكان هو بحاجة الى شئ يبقيه حيّ ويعطيه أمل فى غد أفضل. كانت كلمات كثيرة بينهم لم ينطق أى منهم بها ولكنهم يشعرونها.
-       "..." فكرت مرام بأى شئ تقوله لتكسر لحظات الصمت المشحونة تلك بينهم...ولكنها لم تفلح.
-       "..." فكر عمرو بأى شئ يقوله ليكسر الشعاع المنبعث منها...ولكن أرادته خانته...إرادته تحتاج القوة لتحيي.
-       "برده هاسيب الشغل" ضحكت مرام وضحك هو.
-       "فكرتى هاتعملى ايه بعد كده؟" كسر شعاعها وركزّ فى الفيلم المعروض أمامه.
-       "فكرت بس مش متأكدة...فكره كده جت لى النهاردة بس"
-       "فكره أيه؟"
-       "فكرت أكتب!"
-       "تكتبى فى مجلة؟ فكرة حلوه"
-       "لا! أكتب كتاب"
-       "انتى بتكتبى أصلاً؟"
-       "لا"
-       "طيب هاتكتبى كتاب عن ايه؟"
-       "عن مأساتى!"
-   "مرام!! انتى مش فى مأساه...انتى كنتى فى محنة وربنا الحمد لله خرجك منها...بلاش تقلبى أحداث حياتك الى ملحمة. انا عارف كويس جداً انك حاربتى مع نفسك كتير ومع عقلك ومع الماضى وقسوة الحاضر وشكل المستقبل...بس مش مأساه يا مرام...دى تجربة قاسة... فى فرق كبير"
-   "تجربة دى لما تكون حاجة ممكن تحصل لاى حد وأنا حظى كان وحش شوية ومريت بها...ولكن مأساه هى الشئ الصعب جداً التعامل معه او أستمرار الحياة فى وجوده...انا مريت بمأساه وكان بداخلها تجارب...فى فرق كبير!"
-   "أحتمال" لم يجادلها...حماسها كان مشتعل بشدة "ماشى! فكرتى فى أسم للكتاب؟" سألها عمرو بشئ من الحماس والأهتمام الحقيقى.
-       "هاسميه (مذكرتى العزيزة)" قالت مرام بلا تفكير.
-       "ممممم....لا! أسم مش قوى"
-       "طيب أستنى...اسميه أيام حياتى"
-       "فى تقريبا 7264 كتاب بالاسم ده فى الدنيا"
-       "(ضحكت) طيب اسميه ايه؟" سألته مرام بابتسامة مرحة.
-       "مش عارف...استنى أفكر شوية...ممكن تسميه (مصرية بإيطاليا)"
-       "لا! أسم وحش أوى أوى أوى"
-       "تلاته أوى؟! (يضحك) خلاص استنى...سميه...(ومضات الماضى ونبضات المستقبل)"
-       "حلو جداً جداً الاسم ده! أخيراً يا عمرو معرفتى بيك بقت بفايدة"
-       "(يضحك) ماشى ماشى! بس أبقى قولى انى اللى فكرت فى الأسم ده فى مقدمة الكتاب. وهاتنشرى الكتاب ازاى؟"
-       "مين فينا المتسرع؟؟ مش لما أكتب الكتاب الأول؟" ضحكت مرام.
-       "(يضحك) اه صح! معلش أصل الفكرة جامدة أوى"
-       " انا كل أفكارى جامدة(تضحك)"
-       "طبعا يابنتى!"
-       "..." ظلت تبتسم...كانت سعيدة ان هناك شخص معجب بفكرة لديها.
-       "مرام! ممكن اسألك حاجة؟"
-       "من نبرة الجد فى كلامك شكلنا كده هانتخانق! عايز تسئل ايه؟"
-       "(يبتسم) لا لا! ربنا مايجبش خناق! بس هى حاجة شخصية شوية...او انتى هاتعتبريها شخصية اوى"
-       "قول!" تحفزت مرام قليلاً وحاولت ألا تعطى له هذا الانطباع.
-       "انتى بتصلى؟"
-       "اصلى؟؟؟" فؤجئت مرام بالسؤال.
-       "اه! بتصلى؟"
-       "لا!"
-       "ليه؟"
-       ".... مش عارفة" قالت مرام فى صوت ضعيف.
-       "أنا اسف! بس انا شايف انك مؤمنة من جوه وناقص بس تصلى علشان تكونى مؤمنة جداًًًًً!"
-       "مؤمنة؟؟ مؤمنة ازاى؟"
-   "انتى خلاص بتطلتى إتعتراضك على إرادة ربنا...بالعكس انتى تقبلتى الوضع دلوقتى وبتحددى خطوط مستقبلك كمان...أعتقد ده شئ من الإيمان"
-   "مش عارفة! بس أنا عمرى ما فكرت فى انى مؤمنة او لأ...انا إنسانة والقدر لعب دور أساسي فى حياتى...بس كده...هو ده اللى فى أعتقادى"
-       "ده إيمان إلى حدٍ ما" قال عمرو.
-       "مش عارفة...احتمال"
-       "انت بتعرفى تصلى اصلاً؟"
-       "لا!"
-       "خلى باباكى يعلمك"
-       "..."
-       "خلينى أعلمك لو عايزة" قالت سريعاً حتى يقنعها بالفكرة اسرع.
-   "عمرو دى حاجة محصلش انى فكرت فيها قبل كده...بلاش تعمل...مش عارفة أقولها ازاى...بلاش تفرض عليا أسلوب حياة أنا مش متعودة عليه...أنا مش عارفة اشرح عايزة أقول ايه...بس ده كده تغيير جامد شوية"
-   "مرام! الصلاة مش تغيير أسلوب حياة...ولا حتى أسلوب تفكير او ليه علاقة اصلاً بالحياة كلها...دى ترجمة علاقتك بربنا...علاقتك بربنا ليها علاقة بالنفس...بالروح"
-   "مش عارفة" كانت مرام متضاربة قليلاً...لم تفكر بالصلاة من قبل...كانت تخاف كل جديد...تخشى التغيير الى حد كبير.
-   "تعرفى؟ الصلاة دى ممكن تقولى عنها انها مثلاً...عادة...عادة جديدة تكتسبيها...وهى عادة كويسة جداً...انتى بيها بتشكرى ربنا كل يوم...خمس مرات...وبكده ربنا يديكى أكتر...ويقف جنبك أكتر...ويخليكى أقوى وأقدر على تغلب المشاكل"
-       "عمرو! لما  تحب تتكلم معايا فى حاجة او تقنعنى بأى حاجة مفيش داعى انك تعاملى بالأسلوب ده أرجوك" باغتته مرام.
-       "أسلوب ايه؟؟"
-       "تعاملنى على انى طفلة!!!"
-       "انا مش بعاملك على الأساس ده...انا بحاول أشرح لك اللى جوايا"
-       "خلى كلام فيه عمق عن كده شوية"
-   "العبادة فى منتهى السهولة...أصعب مراحلها أول مرحلة...الإيمان...وانت  مؤمنة...يبقى ناقص بس العبادات" حافظ عمرو على هدوئة حتى لا ينفرّها.
-       "..."
-       "الدنيا أسهل كتير من اللى انت متخيلاه...انا بنصحك كأخ...ولمصلحتك...على العموم انتى حره"
-       "اوكيه"
-       "انا  هاقوم أكمل مذاكرة بقى"
-       "ماشى"
خرج عمرو من الحجرة ودخل غرفته...تاهت مرام فى الكلام...فى رد فعلها العنيف...فى محاولته إصلاحها...فى فشلها فى مقاومة أفكاره او اى شئ يقوله...نجاحه دائماً فى إثارة أعماق عقلها ووجدانها. دخلت غرفتها لتترجم ما بداخلها على ورق كالعادة.
مذكرتى العزيزة
الإيمان فكرة قوية جداً...الإيمان بالنفس...بالذات...بالغيب...بالله...بغد أفضل...بالملائكة...الإيمان فى حد ذاتة قوى...الإرهاب أساسه الإيمان بفكرة...العقيدة إيمان...الإرادة إيمان...الإنتحار إيمان بعدم الجدوى من الحياة. كل شئ فى الحياة أساسه إيمان...ولكن للإيمان ألوان كثيرة ومختلفة ومتضاربة أيضاً. لا أعرف اى لون منه يتكلم عمرو...الإيمان الذى راه بداخلى...هل هو إيمانى بذاتى؟ بالله؟ بالقدر؟ لا أعرف...ربنا اختلط عليه الأمر.
إنه يعتقد أن إيمانى بالله قوى...هو قال ذلك ولكن ربما اخطأ فهمى. ولكن...ما هو أقوى انواع الايمان؟ هل هو الإيمان بالغيب...ام بوجود قوى أكبر من البشر؟ بالنفس؟ بالمستقبل؟
بالنسبة لى الإيمان بقوة أكبر تريد الأفضل لنا هو اصعب ألوان الايمان...هذا اللون يتطلب الكثير من مجاهدة العقل...وتقبل الواقع الأليم على انه الأفضل لنا...عدم مقارنة حياتنا الصعبة بالحياة السهلة الناعمة للآخرين حولنا. تقبل الامر الواقع وتقبل الفشل على انه الأفضل هو أصعب شئ...ولكن هل الفشل هو نتيجة أعمالنا أم قدر مكتوب لنا؟ لا أعلم.
فكرت قليلاً فيما قاله عمرو بشأن الصلاة. لا أعلم لما أرفض اى شئ غريب عنى بلا معرفة...بالتاكيد أريد مساندة الله لى...ولكن ألا يكفى أن أتقبل الصعب الذى كتبه لى ليساندنى؟ هل يجب أن أصلى أيضاً؟؟ وإن صليت هل يذهب الله عنى الاذى؟ هل يعجلنى أكثر صحة؟
هل تفكيرى هذا يعتبر كفراً بالله؟

الفصل السادس والعشرون
لم تذهب مرام فى اليوم التالى للعمل أيضاً...قابلها عمرو بالطابق السفلى قبل خروجه للجرى قليلاً على الشاطئ.
-       "انتى برده مرحتيش الشغل؟"
-       "لا! مش هاروح تانى"
-       "يا مرام غلط!"
-       "انا عايزة كده! انت رايح فين؟"
-       "هاجرى على البحر شوية"
-       "طيب ماشى"
-       "تحبى تييجى؟"
-       "مبعرفش أجرى" ضحكت مرام.
-       "..." أحمر وجه عمرو خجلا مما قاله...لم يقصد ذلك إطلاقاً.
-       "(تضحك) اتكسفت ليه؟ عادى...هاجى بس أجيب دياموند كمان"
-       "زى ما تحبى"
خرجا سويا وأخذا الكلب معهم. بدأت مرام بالكلام فور وصلهم الرصيف المقابل للشاطئ:
-       "عملنى أصلى إزاى!"
-       "بس كده؟ حاضر" فرح عمرو لما طلبته.
-       "ايه أقوى أنواع الإيمان يا عمرو؟" سألته مرام وعلى وجهها علامة الجدية التامة.
-       "مش فاهم...يعنى ايه؟"
-       "الأيمان أنواع كتير...ايه أقوى وأصعب نوع؟"
-   "(فكر قليلاً) بالنسبة لى...الأيمان بالله كان شئ مسلم بيه...يعنى الاول كنت معتقد انى مؤمن طالما أعرف ان فى ربنا وفى محمد رسوله وفى رسل قبله وفى الاخرة وفى حساب وجنه ونار ومؤمن إن القرآن هو كتاب الله...بس لما ماتت نهى...كان صعب جداً اؤمن ان ده الخير ليّا...وحتى الأن مش قادر أقتنع تماماً ان هو ده الصالح ليّا...الأيمان بيظهر فى المواقف الصعبة...تعرفى إن كنتى معترضة على إرادة ربنا ولا لأ...تفكرى إن كان اللى بيحصل حولك ده من صنع البشر ولا إرادة ربنا...يعنى نهى ماتت نتيجة حادثة...ربنا عايزها تموت كده ولا صاحب العربية هو اللى قتلها فى غير موعد وفاتها؟ معرفش...ومش عايز أعرف...بس اللى أعرفه دلوقتى ان ربنا أراد لها هى الموت...مش أنا...وانا كنت غلطان جداً فى غضبى اتجاه القدر...انا عارف أنه حرام...بس هل القتل قدر ولا من صنع البشر؟ يعنى لو كانت نهى واخدة بالها شوية من الشارع كانت دلوقتى عايشة؟ ولا كانت هاتموت بطريقة تانية؟...حاجات كتير وأفكار كتير اوى فكرت فيها ولقيت انى تايه فى النهاية فى المعنى الحقيقى فى اللى حصل وهل هو خير ليّا ولا لأ"
-       "عمرو! انت بدأت تتكلم عن نهى!" قالت مرام وأبتسامة هادئة تعلو وجهها.
-       "نعم؟"
-       "دى علامة كويسة خالص على فكرة"
-       "ازاى؟"
-       "انك تتكلم عنها عادى كده ده يدل انك عديت أصعب مرحلة فى الحزن وهى الصدمة"
-   "أنا عارف انى أقوى كتير دلوقتى عن أول ما ماتت...بس لسه بحبها...ولسه قلبى بجروح جداً بفراقها...بس الألم محتمل...فكرة الإستمرار فى الحياة بدونها مقبولة إلى حد ما الإن...بس كل ده لإنى رغم غضبى الشديد جداً من موتها فضلت أصلى واقرأ قرآن وأستغفر ربنا كل ما تيجى لى أفكار عن حقيقة اللى حصل"
-   "بس ده كويس جداً...أنا مكنتش أقدر أتكلم عن حالتى إلا متأخر جداً بعد ما حصلت...كنت مصدومة بس بعد ما عديت المرحلة دى لقيت انى بقيت أقدر اتكلم"
-       "الحمد لله" قالت عمرو بصوت هادئ.
-       "..."
-       "قولى الحمد لله" ضحك عمرو معها.
-       "الحمد لله"
-   "فأصعب أنواع الإيمان هو الإيمان بالشر انه يكون الخير لك...ان ربنا مش ممكن يعمل حاجة وحشة او يريد لن الشر...ربنا بيقول اننا لو عرفنا الغيب لأخترنا الواقع...انا مش حافظ الآيه بس دى معناها"
-       "فعلاً!" قالت مرام.
-       "وانت أصعب الإيمان ايه بالنسبة لك؟"
-       "برده الإيمان بقوة أكبر تريد الخير لنا"
-       "القوة الأكبر هى الله" قال عمرو.
-       "عارفة!"
-       "كتبتى حاجة فى الكتاب بتاعك امبارح؟"
-       "لا"
-       "هاتكتبى امتى؟"
-       "إحتمال أبدأ النهاردة"
-       "إن شاء الله"
-       "عمرو! ايه رأيك تتجوز؟" كانت كلمات صادمة وكانت مرام نفسها مصدومة وهى تسمع أفكارها تترجم الى كلمات.
-       "أتجوز؟؟؟" صدم عمرو أيضاً.
-       "عندى ليك عروسة! مش فى مصر برده بتتجوزوا كده؟ حد يجيب لحد عروسة وكده؟" حاولت ان تضحك قليلاً.
-       "انا مش عايز أتجوز" قال عمرو بشكل قاطع.
-       "بس العروسة دى كويسة أوى"
-       "لا يا ستى! انا مش فاضى للجواز والكلام ده خالص دلوقتى"
-       "زى ما تحب...بس أنت الخسران...دى بنت حلوة جداً وكويسة وانا أعرفها كويس"
-       "طيب ما تتجوزيها انتى" ضحك عمرو وضحكت مرام عالياً.
-       "تعالى نروح بقى علشان عايزة اكل"
-       "زى ما تحبى"
أخذا دياموند وأتجه كل منهم لغرفته بالمنزل...وكتبت مرام مرة أخرى ما يدول ببنات أفكارها.
مذكرتى العزيزة
انا شكلى أتجننت خلاص...عرضت على عمرو عروسة!! وانا  اصلاً مفيش فى دماغى واحدة أعرضها عليه! مش عارفة ليه عملت كده...هل انا عايزة أعرف مدى تعلقة بنهى ولا مدى قبوله لفكرة الزواج...مش عارفة...واى كانت الاجابة...لا تهمنى فى شئ اطلاقاً...اطلاقاً.
انا أعرف نفسى جيداً عندما أقول اشياء مجنونة لا علاقة لها بالواقع او حتى الذوق...أحب جداً صدم الأشخاص حتى ينتبهوا لى...مغفلة جداً...جداً...لا أريد ان أحبه...لا أريد ان أحبه مرة أخرى...مشاعرى تتلون مرة أخرى...لا...لن يحدث ذلك...قلت له انى سإترك العمل...أفكر بالفعل فى تركه ولكن ليس الأن...قلت له انى سأكتب كتاباً...أفكر فعلاً فى ذلك ولكنها فكرة وليست فى إطار التنفيذ...حتى إنى جعلته يفكر فى إسماً للكتاب...قلت له ان يعلمنى الصلاة...أريد ذلك وأبى يستطيع تعليمى إياها ولكنى أخترت عمرو...إنى افزعه بتصرفاتى...كنت أفعل ذلك مع فريدى ولكن الوضع مختلف تماماً...ماذا أريد من عمرو؟ الزواج؟ لا...لن اتزوجه...لن أتزوج اى شخص...ربما الإهتمام؟ انه يهتم بى فعلاً كأخت له...هل أريد الأكثر من الإهتمام؟ هل أريده ان يحبنى؟ لا...وإن أحبنى هل أستطيع مبادلته مشاعره بلا عوائق؟ لا...إذن ماذا تريدى يا مرام؟؟؟ ماذا تريدى؟؟؟؟؟؟
-------------
مرت أيام قليلة ولم تتكلم مع عمرو فيها...لم ترد ان تلتقى به مرة أخرى حتى لا تتعلق به أكثر...لا يوجد أى أمل لها فى علاقة معه ولا هى تريد ان يكون بينهم أكثر من صداقة ولكن شئ بداخلها يطلب أكثر...متعطش لأكثر من صداقة...لأكثر من علاقة...لأكثر مما حصلت عليه حتى الأن. حاولت كتابة مقدمة لكتابها وبالفعل نجحت فى ذلك...
ومضات الماضى ونبضات المستقبل

إنها الأشياء البسيطة التى تجعل من عالمنا مكان أجمل...إنها التفاصيل التى تعطى اللون لحياتنا...أنها الأشياء االتلقائية التى تعطى العمق لعلاقات ابدية!
لكننا لا نبالى! لا نبالى بالتفاصيل...بأبسط الأشياء...هذه هى سماتنا الأن...لا يهم أن نرضى عن أنفسنا طالما نجد ما يطعم بطوننا بلا أدنى تفكير فيما يطعم خيالنا....لايهم استمتاعنا بعملنا طالما نجد ما نشترى به الصحيفة اليومية بلا تفكير فيما يشبع طموحنا...لا يهم حبنا  لمن نتعامل معهم طالما يقضون لنا ما يرضى أغراضنا لا تفكير فيما يعنون فعليا لنا.
لم؟ لم أصبحنا بالسلبية المطلقة تلك؟ لم أصبحت السعادة فى ندرة المياة بالصحراء؟ لم نقتل خيالنا ونحن نبتسم؟ ما معنى تلك الابتسامة؟؟ لا أدرى!
أشياء كثيرة أصبحت لا تعنى أى شئ أكثر من مفردات فى لغتنا! مفردات مثل الإبداًع...الخيال...المشاعر...الصداقة...التضحية! نعم! لاتعنى أي من تلك المعانى العميقة أكثر من مفردات تكميلية لنفهم التاريخ أو لنترجم من لغة أخرى للغتنا بلا عائق. أفكارنا أصبحت منصبّة على المادة...على المتعة...على ملاحقة التطور البارد. ونتيجة لذلك أصبحت المشاعر الفياضة لدينا تتلخص فى الإحباط المفرط...أصبحت العلاقات بين زملاء العمل تحكمها الشكوى الدائمة. أصبح اللون الأسود هو السمة السائدة بين معظمنا...لا نفكر فى تغييره ولا نحاول تغييره...إنه يناسب حالتنا كما نقول دائما...لم حالنا سئ كألواننا؟ أين البريق؟ أين البهجة؟
سوء النوايا والتربص بأقراننا أصبح له مسمى آخر وهو: الذكاء! أين الذكاء ونحن ندمر أطراف علاقاتنا بزملائنا وجيراننا؟ لما الكره التلقائى تجاه الأغراب بلا مبرر؟ لم الغيرة من النجاح وعدم استثمار هذه المشاعر فى إشعال حماسنا لنصبح أفضل؟ لم نريد الأسوء من الآخرين  حتى لا نتعب ضمائرنا بمناقشة أسباب بقاءنا بالصفوف الاخيرة؟ لم خاب الحماس من أوصالنا؟ لم صار طريقنا مملوء بالحصى والحجارة؟
أسوء ما وصلنا اليه فى قمة التقدم المادى هى تدنى مشاعرنا...أصبح كل شئ متاح وسهل...وأحياناً رخيص. الحب بيننا أصبح كلمة وليس فعل... وسيلة وليس غاية...أداة وليس هدف. فقد الحب معناه وقيمته وتأثيره ورقيه. الحب أصبح وسيلة لكسب العيش...يستخدم فقط فى الافلام ليجنى الكثير من المال!!

بعد الانتهاء من مقدمة كتابها القتها جانبا قليلاً وذهبت لشباكها تنظر للبحر تستوحى منه الفاظ وأفكار أخرى فى نفس الاتجاه...أرادت ان تكتب عن تجربتها الشخصية ولكن إن كتبت أحداث حياتها ستكون فى منتهى الملل والسخافة...أرادت ان تتكلم عن فوائد تجربتها...عن أوجه الحياة المختلفة التى تعرفت عليها...عن الوجة الآخر للدنيا كما عاشته...على المشاعر المختلفة التى مرت بها. نظرت للبحر كثيراً وتذكرت دوره...ثم التفتت الى دياموند وتذكرت دوره فى حياتها قبل الحادث...نظرت للسماء وعرفت ان الطيور بها ساندوها كثيراً فى محنتها...نظرت للرمال وعرفت كم شربت تلك الرمال من دموعها الصامتة وكم تحملت معها...نظرت لأصابعها وأيقنت كم هى محظوظة لتكمنها من إستعمال يدها فى الكتابة...ولم يكن لديها القدرة على حركة ذراعيها لما تمكنت أبداً من فعل أى شئ...ولكانت عانت أضعاف ما عانت...نظرت للسماء مرة أخرى...وبداخلها أنطلقت صلاة وشكر لله على رحمته بها...شعرت كأن شعاعاً أنطلق منها إلى السماء وفى نفس اللحظة شعرت بحزمة من الأشعة ترتد اليها من السماء...تغمرها وتتغلغل داخلها...أشعة من الراحة والطمأنينة...نظرت للسماء كثيراً وطويلاً...
التفتت مرة أخرى إلى مقدمة كتابها...قرأها مرة أخرى وأعجبت بما قرأته...وعلى الفور أخذتها وذهبت لتريها لعمرو.
-       "ايه رأيك؟" مدت يدها بالورة
-       "ايه ده؟" أخذها منها وقرأ العنوان "ايه ده؟ دى مقدمة كتابك؟" قال بمنتهى الإثارة.
-       "عايزة أعرف رأيك"
أخذ بضعة دقائق ليقرأها...قرأها بعناية فائقة...حاولت مرام قراءة رد فعل وجهه...كان شبح ابتسامة على وجهه...عجبها ما قرأت فى وجهه وعجبه ما قرأ على الورق.
-       "حلو جداً يامرام...مقدمة قوية" قال بابتسامة واسعة.
-       "بجد؟ يعنى حلو؟"
-       "جداً! بس عايز منك خدمة مقابل عنوان الكتاب اللى الهمتك بيه"
-       "أطلب!"
-       "ممكن أكون أول واحد ياخد نسخة منه؟" قال بلطف بالغ.
-       "طبعاً يا عمرو! أول نسخة هاتكون ليك"
-       "ويتمضى عليها" ضحك عمرو.
-       "لا كده كتير" ضحكت مرام.
-       "ربنا يوفقك"
-       "شكراً"
-       "..."
-       "ممكن انا كمان اطلب منك حاجة؟" قالت مرام.
-       "اتفضلى"
-       "علمنى اصلى!"
-       "..."
-       "..."
-       "حاضر...بس كده؟"
أخذ يشرح لها كيف تتوضأ وكيف تصلى ولكن لم تكن تحفظ أى شئ من القرآن لتقرأه أثناء الصلاة...كتب عمرو لها سورة الفاتحة وسورة صغيرة لتصلى بها...والتشهد وكل شئ متعلق بالصلاة.
-       "عمرو! انا مش بعرف اقرأ عربى!"
-       "اه صح؟؟"
-       "انا باتكلم عربى بس"
-       "مممم طيب وبعدين؟ الحل انك تحفظى. متخافيش... الموضوع ده سهل اوى" أبتسم بحنان بالغ.
-       "مش عارفة أقولك ايه بس أنا بتعبك معايا أوى"
-       "لا تعب ولا حاجة...كفاية الثواب اللى هاخده بسببك" ضحك عمرو.
-       "نبدأ من بكره؟"
-       "زى ما تحبى"
خرجت مرام من غرفته واتجهت لمكتبها مباشرة...ألقت مقدمة كتابها جانباً وجذبت ورقة أخرى...
مذكرتى العزيزة
أرحمنى أايها المارد...أرحمنى! أرجوك! لا أتحمل حباً أكثر من ذلك...لا أتحمل قتل قلبى مرة أخرى...لا أتحمل تمزقه ارباً مرة أخرى...لا أتحمل عذاب أعصابى مرة أخرى...لا أتحمل فراقاً مرة أخرى...أرحمنى!
لما أصبح قلبى فى ضعف إيمانى بالحياة؟ لما أصبح الحب كالخمر؟ يسكر ولا يشبع!
عمرو...أشعر كأن دمائى غيرت مسارها داخلى من أجلك...أشعر ان أهدابى ترتعش كلما رأيتك...أشعر بأحشائى ترقص رقصات مجنونة بداخلى عندما أسمع صوتك...أصبحت أذنى لا تميز غير صوتك وأصبحت عينى لا تلمع إلا لك! أشعر بكل ذلك وأكرهه...أكره ضعف الحب...أكره ضعف الانثى...أكره كونى انثى تحب!!!
-------------
أيامـــى
أشعر بتعلق مرام بى ولكنى اكذب نفسى! هل تحبنى؟ هل تعجب بى؟ ماذا أمثل لها؟ صديق؟ حبيب؟ أخ؟ يا ليتنى أعلم حتى أرتاح. أشعر بعبء المسئولية ثقيلاً على كاهلى بسببها...لا أريدها ان تحبنى او تتعلق بى او يكون لديها أمل فى حب من جانبى...أشعر بالكثير من الشفقة اتجاهها ولكنه ليس حباً...بها الكثير من المميزات ولكنى لا أحبها...كيف أترجم لها مشاعرى؟ وكيف أقول لها انى لا أحبها ولكنها بالنسبة لى أخت فقط!
أعلم جيداً أن بإستطاعتها تعلم الصلاة من أبيها أو أمها...او تسأل أى شخص...إنها تخصنى بكل شئ عنها دون غيرى...كتابها...عملها...الأحداث التى تدور بيومها بالعمل...تستشيرنى بأشياء هى تعلم جيداً ما سأقول ولكنها تتناقش معى فيها...أعلم تماماً ما تمر به وأكره ان أكون طرفاً فى جرحها...لا أعلم لما عرضت علىّ عروسة للزواج...ربما لتعرف رد فعلى إتجاه الزواج عامة...ولكنك يا نهى بداخلى حتى الأن...كيف أفكر فى غيرك وأنت تملكين عقلى حتى الأن...كيف أفكر فى الزواج وأرافق أخرى يوم القيامة؟ لقد أخترتك انت لتكونى معى فى دنياي...وفى آخرتى...لن أتزوج غيرك...ولن أحب غيرك!!

الفصل السابع والعشرون
عاشت مرام أيامها تكتب ليلاً نهاراً كتابها...ومذكراتها أيضاً. تكتب كتابها ثم ترجع لمذكراتها لتكتب إنعكاساتها عن الكتاب! تركت عملها...لم يعجبها ان تظل بوظيفة صغيرة الشأن...أتصل بها باولو مرات قليلة ولم ترد له مكالماته فتجاهلها ولم يعد يتصل بها.
أنتهى عمرو من إمتحاناته وبدأ فى البحث عن وظيفة مهما كانت ضئيلة حتى يتكفل بشئ من مصاريفه...وفكر جدياً فى ترك منزل عائلة مرام والعيش بأى سكن منفصل...لم يعد غريباً فى تلك البلد فهو يستطيع ان يعتمد على نفسه.
لم تعد نالا ومرام أصدقاء...لم تكلمها مرام اطلاقاً وتبادلت نالا برود صديقتها ببرود أكثر قسوة. تخلت مرام عن جميع الأشخاص بحياتها إلا عمرو...كانت قبل علمها شغوفة جداً لمعرفة المزيد من الأشخاص وتوسيع دائرة حياتها الاجتماعية ولكن ما فعلته حقاًَ هو طرد كل شخص بها مرة أخرى...شعرت انها على أرجوحة...تعلو جداً وتتعرف على اشخاص آخرين وتجعل كل مشاعرها إتجاههم مشاعر اخوة وصداقة صافية...ثم تهبط وتشعر بالفراغ من حولها وتشعر بالوحدة...ثم تعلو فى الاتجاه المقابل ولا ترى بحياتها إلا عمرو!!
أنتهت مرام من كتابة عشرون صفحة من كتابها..كلفها هذا الكثير من السهر...لا تسطيع الكتابة إلا بالليل والهدوء يحوم حولها...حاولت ان تجعل عمرو يقرأ ما تكتبه أولاً بأول ولكنه رفض وقال لها انه يريد ان يقرأ الكتاب عندما تنتهى من كتابته ومراجعته تماماً.
تعودت أن تجلس إليه كل يوم وقت المغيب...يتكلما او يتمشيا على البحر سوياً وكان دياموند دائما صديقهم الثالث...كانت تعى تماماً تطور مشاعرها نحوه...وكان هو متيقن من ذلك...حاول ان يجعلها يسلط فكرة الاخوة بينهم أكثر من مرة بلا تعمد.
فى يوم ما وهو على الرصيف المقابل للشاطئ حيث تعودا الذهاب فتح عمرو موضوعاً اثار شجونها
-       "على فكرة يا مرام...فى حاجة بس أحب أنك تكونى أول واحدة تعرفيها...بحكم الصداقة اللى بينا"
-       "خير؟"
-       "انا هاسيبكم وأروح مكان تانى!"
-       "ايه؟؟؟؟؟ ليه؟؟؟؟" صعقت مرام لما قاله عمرو.
-   "كفاية كده! أنا متشكر جدأً للضيافة الهايلة بتاعتكوا ليا...انتوا اتعاملتوا معايا كأنى واحد من العيلة...بس كفاية كده...أنا هاسكن مع واحد صاحبى...مأجر شقة صغيرة فى وسط المدينة وهاسكن معاه وأدفع نصف الايجار...وبكده اساعد صديقى وكمان استقل بحياتى"
-   "وليه يا عمرو؟؟ ليه؟؟؟ حد فينا عمل لك حاجة؟ أنت زعلت من حاجة؟ فى حاجة حصلت؟ حد زعلك؟؟؟ أنت ممكن تقولى لو فى حاجة بجد من غير حساسية خالص...أنت عارف إحنا أصدقاء ازاى" كادت أن تجن.
-   "بالعكس والله...أنا كنت سعيد جداً بالإستضافة الطويلة جداً دى...وانتوا ناس مفيش أحسن منكوا...بس كل شئ ليه مرحلة وينتهى...وأنا فترة أستضافتى فى بيتكم أنتهت...أنا مش هأقدر مهما عملت انى أرد الجميل ده"
-       "عمرو!!! جميل؟؟ أنا بعتبرك واحد من البيت...أنت لازم تفضل معانا...لازم" لمعت دمعة فى عينها.
-   "مرام! انا مش رايح احارب...أنا هاتنقل لمكان تانى فقط...وطبعا هاشوفكوا كتير...هابقى ازوركوا وانتوا كمان تعالوا زرونى"
-       "طيب ليه؟ ايه الفكرة؟"
-   "انا مش صغير علشان حد يفضل واخد باله منى لغاية دلوقتى...انا من الاول كان لازم اعمل الخطوة دى بس مكنش عندى الشجاعة الكافية انى اسيب ناس ومكان مالوف لديّ وأروح مكان غريب...بس دلوقتى أقدر أعمل الخطوة دى علشان إيطاليا مبقتش بلد أجنبى بالنسبة لى زى الأول...أنا بحس انى أنتمى للمكان هنا إلى حد ما...فالأفضل إنى أبداً أستقل بحياتى...لأن ده الطبيعى"
-       "..." ذرفت دمعة صامتة ونظرت غليه بحزن شديد.                             
-       "يا مرام بلاش كده...المفروض تكونى سند ليّا مش تضعفينى كده"
-       "انا مش باضعفك...انت اللى بتضعفنى"
-       "بلاش الكلام ده أمال! الصداقة اللى بينا بتطلع أحسن ما فينا...انا باستمد منك قوة وأنت كمان"
-       "..." عبس وجهها ودمعت عينها أكثر.
-   "بلاش عياط! فى النهاية انا هانزل مصر تانى ومش هانشوف بعض...خدي الموضوع كله من الجانب المضئ...دلوقتى انا أخرج من البيت ونشوف بعض...ودى خطوة علشان منشوفش بعض...الصداقة ملهاش علاقة إن كنا نشوف بعض أو لأ...الصداقة تواصل يا مرام"
-       "..." لم تكف عن البكاء وكانت كلماته تثير الأكثر من الحزن داخلها.
-   "على العموم بلاش نتكلم فى الموضوع ده دلوقتى أنا لسه هامشى الأسبوع أللى جاى...عندنا أسبوع بحاله نتكلم فيه كتير" أبتسم لها إبتسامة مسكينة.
-       "..." أدارت كرسيها الكهربائى فى اتجاه المنزل.
مذكرتى العزيزة
        حاولت كثيراً معك أيها المارد...أيها القاسى غليظ الأعصاب! حاولت كثيراً تجاهلك ولكنك جبار! أقوى منى...أقوى من أى إرادة داخلى...تخبو إرادتى أمامك وتضحك أنت عاليا| فى وجهها لترهبها. أيها المارد المجنون...أيها المارد لا تفرض نفسك علىّ أرجوك...لا أستطيع مقاومتك صدقنى! إنك تتحكم فى كل شئ بى...ألا يكفيك هذا؟ ألا يكفيك تحكمك فى عقلى وإرادتى وتفكيرى وضميرى...ألا تستطيع إنزال رحمتك بقلبى الرقيق؟ ألا يكفيك ما فعلته بىّ من قبل؟ ألا يكفيك ما كلفتنى بسبب الحب الذى تضخه فى دمائى وقلبى وأطراف عروقى؟ لم يكفيك أنهار دموعى...أنهار كثيرة طويلة من دموع حارة لا تنتهى ولا تجف؟! لم يكفيك شقّ صدرى بآهات لا تنتهى؟ لم يكفيك كرهى لنفسى طويلاً؟ لم يكفيك أفكارى الإنتحارية لأتخلص من عذابك؟ أرجوك كفى!! كفى كفى! لا أتحمل المزيد! لا أملك دموعاً أخرى لأبكيها! لا أملك قلباً سليماً لاحطمه! لا أملك اهاتاً لأطلقها! لا أملك ايماناً لمواجهتك!!!
-----------------
أيامـــى
من أجلك يا مرام فعلت هذا...من أجلك سأرحل حتى أعطيك أكبر فرصة لتنسى مشاعرك نحوى...ليس من العدل ان أتجاهل ما أفهمه وأستقبله من إشارات عن حبك لى...أعلم تماماً أن بداخلك مشاعر نحوى ولكنى لن أستطيع إشباعها أو تبادلها معك...لا أستطيع...سامحينى.
إنك من أفضل الأصدقاء بالنسبة لى ولكن يجب ألا تنمو مشاعرك فى إتجاهى كرجل...ولكن يجب ان يظل حبك لى حب الأصدقاء.
حاولت مساعدتك كثيراً... شددت من أزرك وحاولت مساندتك فى محنك العقلية...حاولت تنوير طريقاً لله لك...حاولت تجميل صورتك أمام نفسك...حاولت تشجيعك على مواجهة الحياة الحقيقة خارج جدار حجرتك...ولكنك فسرتى تصرفاتى معك على أنها حب...ولكنها فى الواقع...حب الخير وليس حب رجلاً لامرأة...انا اسف...سامحينى!!
-------------
ظلت مرام طوال الأسبوع الاخير من إقامة عمرو لديهم تحاول أن ترضيه بكل الوسائل...كانت تصلى كثيراً وتدعى الله أن يبقى عمرو بجابنها لحاجته إليه...حاولت أن تقرأ العربية مرة وقالت له أن يعلمها كيف تقرأ اللغة العربية قبل مغادرته البيت...أعطاها مجلة كان يحملها معه من مصر...قال لها إن تعلمت القراءة سيعطيها هدية ثمينة...بداخلها تذكرت يومياته وندمت على عدم الإحتفاظ بنسخة منها...حاولت جاهدة القراءة وتعلم شكل الأحرف وأصواتها...حاولت كتابة أسمها وعلّمها عمرو كيف تكتبه...وكتبت أسمه...كان يضحك كثيراً لخطها...كان كخط الأطفال تماماً...كانت مرام تكرس كل جهدها فى تعلم اللغة العربية.
فكرت مرام فى أن تعطى عمرو شيئا ثمينا يذكره بها...فكرت فى إعطائة دياموند...فكرت فى إهدائة أى شئ يخصها ولكن لم تتوصل لأى شئ ذات قيمة...كان دياموند هو الحل الأمثل ولكنها لا تسطيع الأستغناء عنه...إنه آخر شئ تستطيع التواصل معه.
فكر عمرو ان يترك لمرام هدية قبل مغادرته...وفكر فى أن يعزم العائلة كلها على العشاء كشكر بسيط لهم لأستفضافتهم إياه بكرم لفترة طويلة. بالفعل أتفق مع الاب على دعوتهم على العشاء بمطعم فاخر ليلة تركه المنزل...لم يوافق الاب بالبداية ولكن عمرو صمم وفى النهاية قبل الدعوة. وفى تلك الليلة أرتدت مرام أفضل ما لديها وكذلك الاب والام واخيها...كان عشائاً فاخراً غالياً...كان عمرو لديه بعض المدخرات استغلها فى تلك الدعوة. كانت أمسية ظريفة ضحكوا كثيراً إلا مرام...كانت عابسة حزينة ولم تأكل إلا القليل.
-       "انا عايز أبعت حاجة معاك لبابا...بس فكرنى لما نروح" قال الاب.
-       "حاضر" أرتبك عمرو قليلاً...التفتت مرام إلى عمرو ثم إلى ابيها.
-       "هو والد عمرو هاييجى ايطاليا؟" سألت مرام ابيها.
-       "(يضحك) طبعا لا! لما عمرو يرجع مصر يدى الحاجة لوالده"
-   "انت راجع مصر؟؟؟" فزعت مرام...لم يتكلم عمرو وأستكمل طعامه...أرتبك قليلاً...لم يشأ أن يخبرها انه مسافر لأرض الوطن مرة أخرى...أردها أن تعيش فكرة انه سيترك المنزل ثم بعد أسبوع أو أكثر يبعث لها ببريد الكترونى يقول لها انه فى مصر.
-       "تعرف أنا نفسى أنزل مصر جدا" قالت الام بكل تلقائية.
-       "إن شاء الله قريب نشوفكوا فى مصر" قال عمرو.
-   "بقالنا حوالى 30 سنة فى إيطاليا...لدرجة اننا لو نزلنا مصر هاحس إنى سائحة...مش هاحس انى فى بلدى اطلاقاً" استئنفت الام كلامها.
-       "مصر اتغيرت كتير جداً أكيد" قال الاب.
-       "اكيد" قالت الام.
-       "وحضرتك مفكرتش طول ال30 سنة دى أنك تنزل مصر أبداً؟" سأله عمرو.
-   "احنا نزلنا كذا مرة بس من غير الأولاد...بس آخر مرة كانت من حوالى 14 سنة...زمن" أبتسم الأب وعكست عينيه نظرة إشتياق لوطنه.
-       "إن شاء الله تحاولوا تنزلوا مصر قريب" قال عمرو مرة أخرى.
-       "إن شاء الله" قال الاب.
بعد الإنتهاء من العشاء اتجهوا جميعا للمنزل...نام الجميع ما عدا عمرو ومرام...كانت مرام مصدومة بأنه مسافر ولن تراه مرة أخرى وكان عمرو مشغول بتحضير باقى أغراضه. سمع طرقات خفيفة على بابه...وكان يعلم تماماً إنها مرام.
-       "ليه مقلتش أنك مسافر؟ ليه كدبت عليا؟"
-       "انا اسف...مش عارف ليه عملت كده فعلاً...متزعليش"
-       "عمرو كان ممكن تقولى إننا مش هانشوف بعض تانى...أنت بتعاملنى على انى طفلة" خانتها دموعها فبكت.
-       "لا أبداً! خالص! بس كنت متخيل انى أقول لك الخبر ده خطوة خطوة يكون أفضل كتير" قال عمرو مدافعلاً عن نفسه.
-       "برده بتعاملنى على انى طفلة" بكت مرام.
-       "يا مرام احنا هانفضل أصحاب مهما كان...ومهما كان المكان اللى احنا فيه"
-       "إحتمال!"
-   "مش إحتمال...أكيد هانفضل أصحاب...هابتعت لك كتير على الانترنت وأنت كمان أبعتى لى كل أخبارك...وكمان الكتاب بتاعك...أول ما تخلصيه تبعتيه زى ما وعدتينى"
-       "ان شاء الله" قالت مرام بصوت ضعيف خلف ستار دموعها.
-       "انت قلتى ان شاء الله؟" أبتسم عمرو.
-       "..."
-       "مرام دى أول مرة تقولى  فيها إن شاء الله!!" شعر بسعادة غامرة لمجرد نطقها تلك الكلمات.
-       "ربنا مش بتاعك انت لوحدك علشان تفرح كده!!"
-       "انا اسف!" آخر شئ أراده فى ذلك اليوم هو الخناق معها.
-       "انا بقيت أعرف اقرأ عربى" تذكرت مرام انه وعدها بهدية إن نجحت فى قرائة اللغة العربية.
-       "بجد؟ يعنى ممكن تقرأى جمل على بعضها"
-       "ايوه!"
-   "وانا وعدتك بهدية" عبث قليلاً بحقيبته وأخرج منها المصحف الذى أخذته من قبل من احد ادراجه عند سفرة لمصر من قبل واعطاها اياه.
-       "شكراً"
-       "ده كتاب ربنا...حاولى تقرأي فيه دايما"
-       "متشكرة"
-       "بصراحة مش لاقى حاجة أقيم من المصحف علشان اديهولك هدية بمناسبة تعلمك العربى"
-       "..." لم تنطق.
-   "مرام! من فضلك بلاش تزعلى منى كده...خلينى أمشى وأنا مش زعلان...خلينى أمشى على وعد بلقاء آخر ان شاء الله"
-   "لقاء؟ فين؟ أمتى؟ تفتكر ممكن نشوف بعض تانى؟ ممكن نتكلم تانى فترة طويلة؟ تفتكر ممكن نشارك نفس المكان مرة تانية؟" ذرفت دموعاً مرة أخرى.
-       "وليه لا؟ بلاش تشائم...أحتمال اجى أزورك هنا تانى...او انتى تيجى مصر"
-       " انت مش هاتكمل دراستك هنا؟"
-       "لا"
-       "ليه؟؟"
-       "انا مش عايز أكمل الماجستير هنا...انا هاكمل فى مصر"
-       "ده كلام فاضى ملوش اى معنى"
-   "وايه المعنى انى أفضل غريب فى بلد مش بتاعتى بعيد عن كل الناس؟ كل اللى عملته انى بعدت عن الإنسانة اللى كنت أتمنى أفضل طول عمرى معاها...ولما شفتها...كانت شبه جثه...وبعد كده دفنتها...تفتكرى أنا مش ندمان على كل لحظة عدت علىّ وأنا بعيد عنها؟ أنا مش هاستحمل انى أفقد شخص عزيز مرة أخرى من غير ما اكون قضيت اطول وقت ممكن معاه"
-       "لو هانفكر كده عمرنا ما هانتحرك من مكاننا"
-   "امى وأبوا مش صغيرين علشان أبعد عنهم أكتر من كده...كل اللى فى ذهنى أنى أسافر بسرعة علشان أشوفهم أطول وقت"
-       "بلاش جنان"
-       "مش جنان"
-       "انت اللى ممكن تموت الأول"
-       "بالظبط هى دى الفكرة...هما من حقهم انى أفضل معاهم أطول وقت ممكن قبل ما أموت"
-       "بلاش فلسفة سطحية"
-       "مرام! انت غضبانة منى علشان مقلتش الصراحة...بلاش غضبك ده يخليكى عنيفة معايا"
-       "عمرو انا مش عنيفة...اعمل اللى انت عايزة"
-       "انا مسافر بكره...بلاش آخر ساعات تكون مشحونة" قال وهو يحاول الإبتسام لإرضائها.
-       "لا أبداً مفيش حاجة!! بس توعدنى اننا نفضل أصحاب...مهما كان"
-   "مهما كان...هانفضل أصحاب طول عمرنا...ولما تتجوزى ان شاء الله هاحضر فرحك كمان" أبتسم عمرو ابتسامة واسعة.
نظرت اليه مرام وبقلبها لوعة...وبعقلها جمرة من نار...تريده أن يبقى...لا تصدق إنه سيسافر خلال ساعات ويتركها وحيدة تصارع الفراغ من حولها...تكلم نفسها وورقها والكلب فقط...لا تستطيع تحمل ألماً أكثر...لقد انهكتها الأيام بما تحمله اليها من أحزان...كانت تتشبث بالشخص الوحيد الذى تشعر معه انها كاملة وليست شبه إنسانه...بالعقل الذى يناقشها دائها ويعارض أفكارها الخاطئة...بالقلب الحنون الذى يعطف عليها من كبريائها الكاذب...كانت تتمسك بالصديق المخلص...بالقلب الدافئ والإيمان القوى...كانت تستمد إيمانها وقوة عقلها منه...أكتشفت أنه يمثل لها الكثير...أكثر مما تخيلت...حاولت تخفيف ألم قلبها بفكرة انها كانت علاقة مستحيلة الحدوث...وأن حدثت كان محتم عليها الموت...إستحالة التقائهم على أرض واحدة كان واقع...أحبته بعقلها قبل قلبها...أحبت عقله ومنطقه...أحبت قوته ولكن عندما ضعف نبذته...كرهت كبريائها...غرورها...كرهت حبها له.
كان عمرو يرتب كتبه جانباً حتى يضعها فى حقيبة مستقلة...ظلت مرام معه وهو يرتب باقى اشيائة ويضعها بحقاَئبه العديدة...لمحت مذكراته...أنتاب قلبها رعشة خفيفة...دى يومياته!!...نظرت إليها ثم نظرت اليه...كان يرتب الكتب ويتخلص من الورق الزائد لديه...أقتربت قليلاً من الحقيبة التى بها اليوميات...نظرت ألى عمرو مرة أخرى...كانت خلفه ولم يراها...بحركة خفيفة للغاية سحبت يومياته من الحقيبة وبسرعة صامتة أخفتها فى طيات ملابسها...وأبتسمت قليلاً ولكن كان بقلبها رجفة قوية جداً...خافت ان يراها...اقتربت منه قليلاً...نظرت اليه...نظر اليها...
-       "مهما كان؟ هانفضل أصحاب؟" سألته مرام مرة أخرى.
نظر اليها طويلا...صمت...لم يحرك ساكنا...نظر داخل عينها.
-       "مهما كان" قال عمرو ونبرة اليقين واضحة بصوته.
-       "اشوفك بكره الصبح...ان شاء الله"
-       "ان شاء الله" أبتسم عمرو.
لم تجرؤعلى فتح مذكراته تلك الليلة...لم تجرؤ حتى على النظر اليها...شعرت انها لو فعلت ذلك سيخرج عمرو من داخل الورق ويكشف ما فعلته...خرجت من حجرته ^لى حجرتها ونزعتها بقوة من طيات ملابسها ودستها بسرعة وسط ملابسها بأحد أدراجها. ظلت طوال الليل تفكر بعمرو ومذكراته أو يومياته كما كان يطلق عليها...ولكنها شعرب بقليل من التعويض عنه بأمتلاكها يومياته...لم تتخيل أى شئ أافضل من ذلك كهدية...ولكنها بنفس الوقت فكرت كيف يهديها عمرو كتاب الله وتسرق هى فى اللحظة التالية...شعرت بالذنب يزحف الى قلبها...حاولت نفضه...مستحيل أرجع تانى عنده وأرجعها...فكرت كيف ترجعها مكانها ولكنها بنفس الوقت تريدها بشده...تريد أن تدخل داخل عقله...تسمع عقله يتكلم بلا حواجز أو حدود...كتابة اليوميات أو المذكرات تكون فى منتهى الصدق والصفاء حتى مع النفس...تكون الصورة الحقيقة للعقل والضمير...ياترى كتب فيها عنى؟...أرادت مرام ان تخرجها وتقرأ ولكنها لم تجرؤ.
أطلت الشمس من شباكها بحياء...تستأذن الدخول إليها...تسللت أشعة قليلة لحجرتها وأنعكست على الأسطح العدة بالغرفة...كانت مرام مستيقظة...لم تنم طوال الليل. صعدت الى كرسيها وطلت من الشباك تستقبل شمس يوم جديد...آخر يوم لعمرو بحياتها...آخر لحظات له أمام عينها...آخر كلمات لأذنيها...آخر أنفاس للهواء حولها...نظرت للبحر وعرفت أنها لن تزوره معه مرة أخرى...نظرت للسماء...نظرت طويلاً...ارتاحت لأن سماء واحدة ستضمهما للأبد...سماء واحدة تغطيهما...شعرت بالهواء يلاطف شعرها وأهدابها وشعرت أن الرياح ستكون رسولها...الرياح لا تموت وستبعث كل يوم بسلامها وحبها إليه عبر الرياح...نظرت مرة أخرى للسماء ولاحظت السحب البيضاء الخفيفة...لابد ان تلك السحب تحمل الماء من مكان إلى مكان...هل تتمكن من حمل رسائلها اليه؟...يا ترى الملائكة رجعت تانى ليك؟...سألت مرام نفسها بصوت مسموع...تلفتت حولها وأيقنت ان شعورها لابد أنه تجمد لأنها لا تشعر بالملائكة...ربما توجد الملائكة حولها ولكنها أهملتهم فأهملوها...ربما تركت الملائكة المنزل كله...أكيد مفيش حد هنا يستاهل الملايكة...فكرت بهم...فكرت فى ان تنقل أشيائها إلى حجرته بعد خروجه منها...لابد أن تقطن تلك الحجرة.
فكرت مرام  فى كل شئ إلا لحظة وداع عمرو...لم تتخيل أنها ستحيي بعد تلك اللحظة...تمنت ألا تراه حتى يغادر...فكرت فى كل شئ ماعدا مشاعرها إتجاهه وشعورها بالوحدة بعد مغادرته. ظلت بالغرفة ساعتين حتى سمعت أصوات أقدام خارج حجرتها...أسترقت السمع جيداً ولم تكن خطوات عمرو...كانت خطوات أخيها...بدأ القلق يسرى مسار الدم...ويرتفع لرأسها ويطن بها. مرت نصف ساعة أخرى وسمعت خطوات عمرو وأخيها...أدركت انهم يحولون حقائبة للسيارة...أتجهت للباب وجاهدت ألا تفتحه...لا تريد أن ترى عمرو...لا تريد أن تعيش لحظات فراقه...كثرت أصوات الأقدام خارج حجرتها...إنهم جميعاً يساعدونه فى تحويل أغراضه من الحجرة...اتجهت لمكتبها وأمسكت بقلمها والورق فى عنف بالغ.

مذكرتى العزيزة
ايها المارد...ايها الجبار...ارحمنى...كم من مرات يجب ان اترجاك؟ أشعر بك تنبش بمخالبك الحادة رئتىّ وتدس أسنانك بقلبى وتشرب من دمائى الكثير والكثير...ترقص رقصات مجنونة داخلى وأنت تدمى قلبى ورئتىّ!! لا أستطيع التنفس أرجوك كفى...كفى...إنى إموت حرقة!!
إنك أقسى شئ فى الحياة...يطلقون عليك اسمى الأسماء ولكنك صدئ كطعم الدماء الباردة...مرّ كالعلقم...بارد كالحجارة...تقتل بابتسامة حالمة...تطعن بلا ضمير...أرجوك كفى...كفى...كفى.
-------------
مرت نصف ساعة أخرى وطرق بابها...لم تتكلم...فتح الباب وكان عمرو...دخل وذهب اليها...إنحنى والتقت عينيه بعينها...كانت عينها تدمى ولا تدمع...كان قلبه ينفطر من أجلها...يعرف شعور المحب عندما يفقد حبيبه ولكنه لا يملك من أمره شئ...حاولت هى رصد جميع خطوط وجهه وحفرها بذاكرتها...لون عينيه...لون بشرته..لون شعره...شكل حاجبيه...طول رموشه...منابت ذقنه...خطوط فمه...إنسياب انفه...كل شئ حتى رائحته. لم يتكلم...إنحنى على جبينها وقبلها قبله رقيقة...شعرت بنار تسرى فى وجهها بسبب تلك القبلة...وشعر بمرارة قلبها تسرى إلى فمه...وأنتقلت لقلبه...وتقلص لحزنها...تركها مبهورة...حزينة...دامية.
خرج من حجرتها ونزل للسيارة متجهاً لموقف الأتوبيس ليذهب لروما ومنها للقاهرة.
ظلت مرام بحجرتها ولم تخرج منها...كاد الجنون أن يستبد بها...أخرجت مذكراتها كلها...أخرجت كل الأوراق التى كتبتها منذ بدأت تكتبها...قطعتها إربا كأنها تقطع المارد بداخلها...جمعتها فى كومة على مكتبها على طبق من كريستال كان فريدى أهداها إياه من قبل...وأشعلت بها النار...كان اللهب الصغير ينتقل من ورقة الى أخرى...من كلمة إلى أخرى...نظرت إلى أوراقها تحترق...ولم تعرف بماذا تشعر...هل تشعر بالراحة...هل تشعر بالحزن...هل منظر اللهب وهو يكبر ويلتهم ذكرياتها يريحها أم يشعرها بالحزن...فقدت الشعور فى تلك اللحظة...تركت قطع الورق تحترق واحدة تلو الأخرى فى صمت وسرعة.
اتجهت نحو الشباك تنظر مرة أخرى على البحر...تنظر للسماء ولا تعرف ماذا تشعر أو بماذا تقول لها الطبيعة...فقدت تواصلها بالطبيعة فى تلك للحظة...رأت فراشة صغيرة تقف على حافة شباكها...نظرت اليها...وشعرت برغبة جامحة داخلها أن تقبض عليها بأصابعها...فى صمت مدت يدها...لم تتحرك الفراشة...حاولت مدّ ذراعها أكثر لتلحق بالفراشة قبل أن تطير...لم تطولها ولم تتحرك الفراشة الصغيرة من مكانها...أمسكت بحافة الشباك وشدت نفسها لتقف...شعرت أن بإمكانها أن تستند على الحائط وحافة الشباك لتمسك بالفراشة دون ان تقع...بالفعل جذبت نفسها بكل قوة لديها وبكل إرادة أمتلكتها...جذبت نفسها وشيئا فشيئا أرتفع جسدها النصف حيّ من على الكرسى...أرتمت فى إتجاه الفراشة لتمسكها...طارت الفراشة...وأختل توازن مرام...حاولت الإمساك بحافة الشباك جيداً ولكنه فشلت...ووقعت من الشباك...طارت الفراشة للسماء وأتجهت مرام للأرض...أرتطمت رأسها ودقت عنقها....
سمع الاب عويل دياموند...لم يعره إنتباها ولكن الأم شعرت أن هناك شئ غريب بنباحه المستمر المجنون...صعدت لحجرة إبنتها ورأت دياموند خارج الحجرة ينبح بصوت عالى يصمّ الأذن...دخلت الحجرة وشمت دخاناً... كرسيها مطلّ على البحر.
-   " ميرو يا حبيبتى أيه ريحة الدخان دى؟" سألت الأم وهى تدور بالحجرة تفتش عن مصدر الرائحة "انتى كنتى بتحرقى حاجة؟"
"مش بتردى ليه؟" سألتها الأم ولكن عينها رأت كومة من الورق المحترق "أيه يا ميرو ده؟ كنتى بتحرقى أيه يا حبيبتى؟"
"مرام!!" نادت الأم مرة أخرى على أبنتها ونظرت إلى الكرسى...ولم تجد ابنتها...
دوت صرخة عالية بأرجاء المنزل...جرى الأب لحجرة الأبنه ورأى الأم تهتز بعنف وتصرخ عالياً مناديه اياها...فى لحظة كان الاب منضم اليهم...كانت مرام ملقاه تحت شباك حياتها..ماتت مرام...ماتت ليسكت ألم قلبها وعقلها للابد...ليصمت ضميرها المعتل...وعقلها المهتز دائما...وإرادتها الخائبة أحياناً...ماتت فقتل الماضى...والمستقبل...ماتت فقتل المارد بداخلها...قتل قلبها العاشق...وعقلها الرافض...وقتل النصف المتبقى من جسدها!!
كانت رائحة مذكراتها المحترقة تعبئ المكان...كانت كلماتها تطير مع الدخان وتغطى حجرتها...كانت آهاتها المكتوبة تخرج من أبيها وأمها...كانت حسرتها على شبابها الضائع تخرج من صرخات كلبها...
كانت الرياح تلعب بشعرها وهى ميتة كأنه يعتذر لها عن عدم مساعدتها...كانت أشعة شمس المغيب تنعكس على صفحة البحر ثم على وجهها لتنعى روحها...كان الدخان يزداد كلما احترقت كلماتها...سكنت دمائها مكانها للأبد...سكن نصف جسدها الحيَ للأبد...جفت عيونها للابد...وقف قلمها للابد وكانت تلك الكلمات آخر ما تركته ورائها بلا حرق...كلمات لتذكر من بعدها بما افتقدته هى...بما أرادته هى...بمأساتها...

ومضات الماضى ونبضات المستقبل

انها الأشياء البسيطة التى تجعل من عالمنا مكان أجمل...انها التفاصيل التى تعطى اللون لحياتنا...انها الأشياء االتلقائية التى تعطى العمق لعلاقات ابدية!!!!!


-----------------
                                                 النهاية

ريم اسامة