الفصل السابع عشر
أيامـــى
نهى! أنتهت سعادتى
بانتهاء أنفاسك! أنتهى حبى لنفسى مع انتهاء دقائق حياتك! أدعى لك كل دقيقة وكل
اذان حتى يدخلك الله جنته. وهل يوجد أطهر من روحك لتدخل الجنة؟! لا أعتقد. ضحيت كثيراً
من اجلى ولم أقابل تضحيتك بمثلها...كم أنانى أنا!
عذبتنى بفراقك ولم أتخيل
انى ساحيا لحظة بعدك...لم يتحطم قلبى...لم يتمزق صدرى لفراقك...الحطام من الممكن
ان يصلح والتمزق من الممكن ان يعاد الى شكله الاول...ولكنى تبخرت...لم يعد لدىّ اىّ
قدرة على الحياة...أشعر بأن هناك جزء منى معك...فى السماء. حبيبتى أعذرينى...لم
احضر وداعك الأخير ولكنى لم أحتمل. كيف اراك تدخلين ظلمة القبر وأدخلك بيدى؟ كيف أعزى
وأنا الفقيد؟ كيف أحزن وأنا الميت؟ كان هذا هو شعورى...كنت أشعر بالحزن على فراق
المقربون لى ولكنى لا أعرف ما أوصف فقدانى لروحى...هل أعزى نفسى؟ هل أدفن نفسى
معك؟ هل أدعى لنفسى بالصبر؟ وكيف أدعى لنفسى وانا فقيد؟
الصبر شئ سمعته من قبل
ولكنى لا أعرف معناه الان. صوتك يملأ أذنى...أنام وأراك بأحلامى...أستيقظ وأرى
وجهك على الوسادة بجانبى ثم تختفين! كلما أغمضت عينى أراك...كلما صليت سمعت صوتك
يصلى بجانبى...كلما دعيت الله سمعتك تقولين "آمين"...كلما سرت فى الشارع
أشعر كأنك تراقبينى...عندما أنظر للسماء أشعر بأنفاسك على وجهى. يإلهى كم أحبك...كم
أفتقدك...كم أعتصر الماًَ لفراقك!
يا رب! اجعلنى
بجانبها...أنزل رحمتك الواسعة علىّ وخذ روحى لاسكن بجوارها...او مزق روحى من جسدى
وقلبى من صدرى حتى احيا...حتى أدعى لها!
-----------------
-
"وبعدين يا عمرو؟" سأله ابيه.
-
"وبعدين ايه؟"
- "هاتفضل هنا لغاية أمتى؟ هاتفضل كده للأبد؟ هاتكمل دراستك أمتى؟
هاتلتفت لمستقبلك أمتى؟"
- "هادور على شغل حاضر" قال عمرو ليسكت أباه.
- "والبعثة؟"
- "مفيش بعثة" قالها عمرو بخشونة.
- "يعنى ايه مفيش بعثة؟ ايه التهريج ده؟ انت هاتضيع كل مستقبلك
علشان بنت ماتت؟ الدنيا فيها ألف مليون بنت تانية" قال ابيه بشئ من الغضب.
- "من فضلك أنا مسمحش أن حد يقول عنها كده" صرخ عمرو بوجه
ابيه بغضب جمّ.
- "انت بتزعق فى وشى؟" صرخ الاب بدوره فى وجه ابنه.
- "عن اذنك" هب عمرو لمغادرة الغرفة ولكن استوقفه ابوه.
- "استنى هنا!" امره ابيه. توقف عمرو. "انت غبى!
هاتضيع مستقبلك كله! هاضيع حياتك كلها! بقالك كام أسبوع بالأسلوب ده؟ الراجل أتكلم من إيطاليا يسأل
عليك! شوف مصلحتك فين وروح وراها. وكمان روح علشان تنساها! طول ما انت هنا عمرك ما
هاتنسى! هاتفضل كده لغاية ما تتدفن أنت كمان" قال الاب بشئ من الحزم ولكن
مسحة حنان غلفت كلامه. كان يعلم تماماً ما
يمر به أبنه.
الفصل
الثامن عشر
مذكرتى
العزيزة
هل تحبنى الى هذه
الدرجة؟ هل تحبنى لدرجة ارجاع اهم شئ فى حياتى الىّ مرة أخرى؟ هل ترحم من لا يؤمن
بك حق الايمان؟ هل ترحم من ضل طريقه؟ سامحنى يا الله عن كل شك بادرنى اتجاهك!!
عمرو! عمرو سيرجع
الينا مرة أخرى! أشعر كأنى أتنفس مرة أخرى
بعد إختناق....أشعر كأنى أرتوى بعد مشوار طويل جداً بصحراء جرداء. قلبى لا يتوقف
عن القفز داخلى...عقلى لا يقف عن إرسال نبضات الى أعصابى ويهيجها!
كم أشتاق الى وجهك...إلى عطرك...إلى صوت
خطواتك...الى عمق عينيك...الى صدق كلماتك...اليك!
جائت امى اليوم تقول
لى ان والد عمرو أتصل بأبى يشرح له الموقف...قال ان هناك مشكلة خطيرة وغير مقصودة
حدثت بشأن الإقامة. وبعد ذلك كلم عمرو أبى وتكلما كثيراً معا وأعتذر له وقال انه أساء
التصرف حقاًَ ولكنه كان قلقاً جداً لدرجة انه جمع أشيائه وغادر بلا كلمة وبلا شكر!
تقبل أبى إعتذاره ولكنى أعلم أبى جيداً...إنه لا يقبل الإعتذار بهذه
السهولة...دائما ما يتقبل الإعتذار ببعض التحفظ. ولكن لا يهم...لا يهم إن كان أبى
تقبل اعتذار عمرو أم لا...كل ما يهم هو رجوع عمرو الينا.
فور علمى بالخبر دخلت
حجرته أبشرها بقدوم الروح إليها...أبشر الملائكة بالملاك المنضم اليهم مرة أخرى. تذكرت
أغراضه التى أحتفظ بها عندى، جلبت كل شئ وأعدته مكانه مرة أخرى حتى لا يشك فى
دخولى والعبث بأغراضه. تمنيت أن أصور مذكراته ولكنى بالطبع لن أتمكن من ذلك...ولكن
لا يهم...إنه آت إلينا.
لم أشعر بكم السعادة
تلك من زمن طويل...لم يرقص قلبى أو ترتعش أهدابى بالسعادة منذ سنوات. يا الله كيف أشكرك؟!
-------------
وصل عمرو إلى إيطاليا وأستقبلته العائلة بترحاب لم
يتوقعه. توقع عمرو أن يعاملونه بجفاف بعد ما بدر منه من فظاظة فى التصرف. إستقبالهم
جعله يشعر بالحرج الشديد. بعد أستبدال الكلمات ورواية القصة الوهمية بشأن الغقامة أنصرف
الى الحجرة المخصصة له بالطابق العلوى حتى يفك حقاَئبه. تمنى تلك اللحظة لينفرد
بنفسه قليلاً ليتمكن من إستقبال أسئلتهم مرة أخرى على مائدة الطعام...وعلى أن
يعتذر مرة أخرى. شعر أن رجوعه لإيطاليا عبء عليه وسيزيد شعوره بالحزن على نهى!
جاهد حتى يبتسم على العشاء...حاول أن يكون لبقاً ولكن كلما
فكر فى شئ يقوله يجده سخيف وسطحى وممل فيفضل السكوت. بعد العشاء مباشرة ذهب لحجرته
لإدعائة النعاس. وفور دخوله الحجرة فتش فى أدراجه على مذكراته...شعر بأرتياح عميق
بإيجدها مكانها...أمسك القلم وكتب:
أيامـــى
نهى! كنت أعتقد كما قالوا لى أن ذهابى بعيدا عن
ارض الوطن سيخفف وطأة الفراق...هيهات! أشعر بحنين جارف ان أبقى حيث كنت...أشعر
بشعور غامض يسيطر على ويرغمنى على البكاء ولكن حبيبتى آسف...دموعى بعيدة جداً
الان...او جفت...أو الألم أكبر من البكاء منه! دخلت الحجرة اليوم وتذكرتك...عندما
كنت هنا كانت ذكراك صورة من صور التفاؤل والحنين...كنت ملهمتى...كنت الحافز الوحيد
للأستمرار فى هذه الحياة الجافة القاحلة...كنت عزائى عن غربتى وكفاحى الدامى من
أجل مستقبل أفضل...من أجل مستقبل معك! ما هو المستقبل الان؟ هو صورة باهته
كئيبة...المستقبل بدونك لا معنى له...أعلم تماماً أنك لن تغادرى قلبى ولا عقلى
ولكنك غادرت حياتى! ولكن حبيبتى...ما هى الحياة؟ هل هى التنفس والأكل والشرب
والنوم؟ هل هى الخبرات؟ هل هى الأشخاص الذين نقابلهم؟ هل هى السعادة؟ هل هى الحب؟
كنت أتنفس من اجلك...وأنام لأقابلك فى الصباح...عطائك هو أعظم خبراتى...قابلتك فأحببت
نفسى...كانت السعادة هى رؤياك...لم أحب سواك ولم أحب أكثر منك...ولن أحب مرة أخرى!
اذن ما هى الحياة الان؟ هى مأكل ومشرب فقط!!!!!!!
-------------
مذكرتى
العزيزة
رجع الينا عمرو مرة أخرى...ولكن...هذا ليس
عمرو! إنه شبح عمرو! لم أره من قبل بهذا الشحوب والذبول. يبدو عليه القتامة...يبدو
عليه الذهول والذبول. توقعت ان أقابله وأغرق فى سحابة من عطره...توقعت ان أشعر
بالسعادة البالغة بمجرد رؤياه. ولكنى صدمت عندما رأيته...كان يرتدى ملابس عادية
جداً ولم يبد انه أهتم كثيراً بإنتقائها...لم يكن بها شئ غير متناسق ولكنه لم يبذل
أدنى مجهود ليظهر أفضل ما عنده...لم يكن متعطر ولم يكن متعلق بملابسه أدنى عطر اطلاقاً...فقد
الكثير من وزنه وبان هزيلاً شاحباً غير مبال!
لا اصدق قصة الإقامة تلك! مستحيل! ولا أعتقد أى
من اسرتى يصدقون أيضاً ولكن الذوق يحتم عليهم إدعاء التصديق والتعاطف معه. أنا أيضاً
أتعاطف معه جداً...يبدو أنه مر بكثير من الألم فى الفترة التى أمضاها بعيداً عنا. أريد
مساعدته حقاًَ كما حاول مساعدتى من قبل...ترى ما به؟ ماذا حدث؟ ما من الممكن ان
يهز كيان انسان فى قوة عمرو؟ هل مات أحد من عائلته؟ هل جرحه أحد؟ هل فقد شئ أو شخص
عزيز عليه؟
لا أستطيع النوم...شئ ما يحدث حولى ولا أعلم ما
هو! لإنه شعور خفىّ كأن الملائكة تهرب من حجرته لإلى حجرتى!!!!!! هل هذا الشعور
صادق؟ هل ترفض الملائكة روح حزينة معها فى نفس المكان؟ ولكن روحى حزينة وأشعر
بالملائكة حولى...هل من الممكن أن تكون روحه أكثر حزناً منى؟ هل فقد ثقته فى الله؟
هل فقد اىّ من إيمانه حتى تهرب منه الملائكة؟!!
-------------
فى
صباح اليوم التالى كانت مرام راقدة على سريرها تفكر كثيراً بعمرو وتقارن بينه قبل سفره
لمصر وبعد رجوعه منها. حاولت النوم عدة مراتً ولكنها من النوع الأرق جداً...إن
راودتها فكرة تظل تفكر كثيراً بها ويهرب النوم منها! ظلت تفكر فى نفس الفكرة ونفس
الأحتمالات كثيراً وطويلاً ولمرات عديدة بلا ملل...وفى حوالى الساعة السادسة
والربع سمعت خطوات أشتاقت لسماعها كثيراً...خطوات عمرو. انتبهت وأسترقت السمع جيدا
الى إتجاهها...أتجه إلى الطابق السفلى...وبعد لحظات سمعت دياموند ينبح بالخارج!
لقد خرج عمرو! الى اين؟ فكرت مرام. ظلت
دقائق أخرى بسريرها ولكن لم تستطع البقاء أكثر من ذلك...أقعدت نفسها على
الكرسى الكهربائى وخرجت من حجرتها ولكن لم يكن أى من عطره بالهواء...كان كل من
بالبيت نائم وفكرت فى أن تدخل حجرته لتكشتف بنفسها إن كانت الملائكة بها أم شعورها
الليلة الماضية صحيح. لم تتردد كما كانت تتردد من قبل...دخلت فور أن جائتها
الفكرة!
دخلت
حجرته وشعرت كانها دخلت صندوق مملؤ بالدخان، كانت رائحة دخان سجائره خانقة
وشديدة...كانت منفضة السجائر بجانب السرير مملوئة عن آخرها باعقهبها...لاحظت ان
جميع أغراضه مازالت بحقاَئبة ولم يفتح أى منها. تعجبت بشده لأنه عندما جائهم أول
مرة كانت جميع أغراضه بالأدراج والدولاب وحتى كتبه كانت على الأرفف فور وصوله...ولكن
هذه المرة لم يخرج أى شئ. تأملت الحجرة قليلاً
ولم يكن لديها أى رغبة او شعور بان تظل بها لحظة أطول.
خرجت
على الفور ودخت حجرتها ثم أتجهت لشباكها لتطرد رائحة الدخان من رئتيها. ظلت
بالشباك قليلاً ولاحظت أنه على الشاطئ! كان عمرو على الشاطئ بصحبة دياموند. راقبته
قليلاً وتهيأ لها انه يكلم الكلب!! ظلت تراقبه ولكنه كان ينظر إلى الكلب
ويتكلم...كان يشاور بيديه وكتيفيه ورأسه! ده
بيكلم الكلب فعلاً!!! قالت مرام بصوت
مسموع فى دهشة تامة. شعرب بدمعة واحدة تترقق خلف عينها من شده الشفقة عليه من
الحالة المذرية التى وصل اليها. لم تقدر على الإستمرار فى مراقبته أكثر من
ذلك...منعها شعورها الجارف نحوه بالعطف.
مذكرتى
العزيزة
عمرو! ما حلّ بك؟ لما أنت تائه هكذا؟ لما أنت
حزين وشارد؟ لما تركتنا ولماذا رجعت مرة أخرى؟ لماذا تعذب روحك...لماذا تقضى على أجمل
ما بك؟ لماذا تقضى على تفاؤلك؟ لماذا؟ هل أستطيع مساعتدك؟ هل تقبل المساعدة منى
كما قبلتها انا منك من قبل؟ هل تبوح لى بسرك؟ هل تفتح لى قلبك وصفحات عقلك؟ هل
تعطينى الثقة لأرشدك للطريق الآمن؟
أنت الان
على الشاطئ تكلم دياموند...أنت على الشاطئ تكلم كلب...هل فقدت ثقتك بالبشر حتى تلجأ
لكلب لتحكى له ما بك؟؟ ماذا بك؟ ماذا بك؟ أكاد أجن الان بعدما رايتك! عمرو...أنت أوى
من ذلك. لا أدصق أنك نفس الشخص الذى تكلم معى عن الله...عن الايمان...عن الجانب
المضئ من الحياة؟!!!
-------------
عندما جاء عمرو ذهب الى حجرته فوراً...كان من بالبيت
يستعدون للذهاب الى اشغالهم. أنتظرت مرام حتى يهدأ البيت قليلاً...وذهبت اليه.
طرقت الباب وسمح لها عمرو بالدخول.
-
"صباح الخير"
قالت مرام وحاولت ان تضع الكثير من السعادة فى صوتها.
-
"صباح النور"
رد عليا عمرو وأفتعل ابتسامة...أيقنت انها مفتعلة ولكن لم تغضب منه.
- "أنت نورتنا
تانى" قالت مرام.
- "البيت منور بأصحابه!"
- "تسمح لى أقعد معاك
شوية؟"
- "أكيد! أتفضلى"
- "مالك يا عمرو؟ فى
ايه؟" باغتته بالسؤال. نظر اليها قليلاً...تردد...ثم قال:
- "مفيش حاجة!"
- "انت مش طبيعى خالص!
فى ايه مزعلك؟"
- "مفيش!" لم ينظر
اليها.
- "انت ممكن تثق فيا!
محدش هايعرف! انا مش هأقول لحد حاجة صدقنى. انت شكلك متغير خالص...كلك
متغير...شكلك وتصرفاتك وكل حاجة فيك"
- "بجد مفيش حاجة...بس
مخنوق شوية"
- "لدرجة أنك تكلم
كلب؟" ندمت مرام على قولها تلك الجملة فى لحظة انتهائها من قولها. نظر اليها طويلاً
بدهشة ثم نكس عينيه فى خجل واضح واضطراب.
- "كلب؟ انا هاكلم كلب؟
ليه؟ مجنون؟" قال عمرو بشئ من الغضب الممزوج بالخجل.
- "اصلى كنت باتفرج على
البحر النهاردة ولقيتك مع دياموند...وكان شكلك بتكلمه"
- "لا أبداً! انا نزلت اقعد
على البحر شوية وأخدته معايا"
- " بس انت كان ضهرك
للبحر!!" ندمت مرة أخرى...كانت تتكلم كأن شخصا آخر بداخلها يتكلم بلا حياء
ولا خجل.
- "..." لم ينظر
اليها ولم يعلق.
- "انا اسفة! مليش حق أتدخل
فى حياتك كده...بس كنت قلقانة عليك. عن اذنك" قالت مرام بصوت هامس وألتفتت
لتخرج.
- "مرام! انا اسف بس
...انا بجد اسف بس مش عايز أتكلم...انا مقدر شعورك فعلاً بس ...."
- "مفيش داعى للإعتذار!
انا اللى اقحمت نفسى عليك بطريقة مش ظريفة. بس كنت فاكرة اننا أصدقاء وممكن أتكلم
معاك بحرية من غير ما أحسب الكلام قبل ما أقوله."
- "لا متقوليش كده!
احنا أصدقاء طبعاً! بس انا مش فى حالتى الطبيعية! انا مش عايز أزعج حد
بمشاكلى"
- "عمرو! لو مكنش الأصدقاء
لبعض فى وقت الضيق...يكونوا أصدقاء ازاى؟"
- "..."
- "لو عايز فى اى وقت
تقول لى اى حاجة...أتاكد انى هاكون أكتر من سعيدة انى أسمع لك"
- "انا عارف. شكراً جداً!"
- "العفو! عن اذنك!"
خرجت مرام من حجرته وهى مخذولة وحزينة على حاله.
مذكرتى
العزيزة
عنده حق ان يكلم كلب! واضح انى غير جديرة بثقته! ولكنى لن اعطيه
ثقتى انا أيضاً مرة أخرى! لماذا لا يريد إطلاعى على سره؟ لماذا لا يصارحنى؟ هل
يرانى بهذا السوء؟ لا يهم...لن اطلعه على حياتى أيضاً.
واضح ان
شيئاً من شخصيتى انتقلت اليه...الكئابة وعدم الثقة فى الآخرين...ولكن فى
نفس الوقت...كسبت ملائكته المحفة لحجرتى الان بعد ان هجرت حجرته!
الفصل
التاسع عشر
مر أكثر من شهرين وعمرو بنفس الحال تقريباً
ولكنه كان يذهب بإستمرار الى الجامعة وكان يحاول جاهداً اللا يخراج نفسه من أحزانه.
كلما شعر انه أفضل قليلاً يظل يفكر فى نهى ويسترجع قوة حبه لها حتى لا يذهب عنه
الشعور بالوحدة والحزن أبداً. كان يعتقد ان وطأة الألم لابد ان تظل معه...إنها حبه
الأوحد...كيف يخونها ويستمتع بحياة وبدنيا بدونها!!
لم تحاول مرام مرة أخرى أن تساعده بعد أن
رفض مساعدتها له المرة الأولى. كانت تشعر بالإهانة لإتخاذه الكلب صديقاً ورفضه
لها. أو هكذا كانت تفضل أن تفكر. شعورها بأنها أقوى منه أعطاها شعوراً خفياً بالسعادة...خفت
حدة تأثيره عليها بعدما رجع من مصر. كانت تعتقد أنها تحبه ولكنها أكتشفت انها لا
تستطيع ان تحب رجل ضعيف. كانت تعتقد انه أقوى
شخص قابلته ولكنها رجعت عن رأيها...كانت أحياناً تقلب فى مذكراتها وتقرأ من كتبته
عن عمرو وتشعر بأنها انسانة منافقة...إنه قوى ولكنها لا تريد ان تحبه وتمسكت بضعفه
المؤقت لتجعل منه رجل ضعيف فى خيالها. كانت خدعة نفسية...لا تريد أن تحب شخص لا
تستطيع أن تكون معه...لا تستطيع أن تجرح قلبها مرة أخرى...لا تستطيع أن تضحى
بقلبها من أجل كرامتها وكبريائها مرة أخرى! اشفقت عليه من حزنه ولكن سعدت بضعفه!
جاء يوم وكانت بحجرتها تقرأ كتاب عن البحار
والكائنات البحرية عندما طرق أحد بابها:
-
"اتفضل!"
كانت تتوقع امها.
-
"السلام
عليكم" قال عمرو.
- "اهلا وسهلا! أزيك يا
عمرو" بهتت مرام لرؤيته أمامها.
- "أقدر أتكلم معاكى
شوية؟"
- "أكيد! أتفضل!"
قالت مرام ودهشتها مازالت عالقة بعينيها.
- "لا بلاش هنا! تحبى
ننزل على الشاطئ شوية؟"
- "مفيش مانع! عشر
دقايق وأكون جاهزة" قالت مرام بلا تردد.
- "ماشى! هاستناكى
تحت"
فور أن اغلق الباب ألقت
مرام كتابها وتوجهت نحو المرآه...نظرت لنفسها نظرة عابرة وأرتسم على وجهها عدم
الرضا...مشطت شعرها وحاولت عقده للخلف...ولكن وجدت أن شعرها هكذا يظهر جبهتها
كبيرة وعريضة كأنها فقدت الكثير من شعرها...فكت شعرها وضفرته...نفس النتيجة
برده...قررت فى النهاية إطلاق شعرها للهواء...وضعت القليل من المساحيق حتى
تضفى على وجهها بعض الحيوية. نظرت إلى ملابسها ولم تحبها...قررت أن تغيرها بشئ أكثر
أنوثة ولكنها تراجعت...هايفتكرنى بعمل كده علشان أعجبه!... نظرت لنفسها مرة
أخرى بالمراه ولم يتغير شعورها بعدم الرضا أيضاً. وضعت الكثير من العطر ونزلت اليه
غير مبالية بشكلها...لم يكن لديها وقت كافى!
كان عمرو يلهو قليلاً
مع دايماوند...عندما نزلت ذهبا سوياً إلى الرصيف المقابل للشاطئ...نفس المكان أللى
أتكلمنا فيه آخر مرة بصراحة شديدة!... قالت مرام لنفسها وسعدت كثيراً لأختياره
ذلك الرصيف. مشيا حتى مقعد خشبى وجلس هو على أحد الأطراف وكان كرسيها بجانبه تماماً...وكان
دياموند يلهو حولهم.
-
"انا محتاج أتكلم
مع حد شوية! ملقيتش غيرك ممكن أثق فيه" قال عمرو بلا مقدمات. خفق قلب مرام
مرتان ثم أستعاد ثباته.
-
"أنا سعيدة بالثقة
دى!" لم تعلم ماذا يجب أن تقول فى هذه الحالات.
- "مرام أنا حاسس أنى
ضعيف جداً! حاسس انى شخص تانى غيرى! شخص قابل للكسر بسهولة...حاسس أن مكتوب على
صدرى "يعأمل برفق"...عايز أطلع من الحالة دى بس فى نفس الوقت مش
عايز"
- "انت عندك أكتئاب
كده!"
- "فعلاً!"
- "ممكن الأول أعرف ايه
اللى حصل علشان كل ده؟ فى موقف معين هو اللى هزك كده ولا أنت بقيت كده لوحدك
وبالتدريج؟"
- "يعنى ايه
بالتدرييج؟"
- "يعنى مثلاً كنت فى
موقف صعب...أو حياتك بقت مرة واحدة صعبة...فى الأول بتكون صامد جداً...وبعد كده
المشكلة دى بتفرض نفسها عليك أكتر وأكتر لغاية ما تلاقى نفسك بتفكر فى المشكلة دى
وبس مش فى حاجة تانية...وبالتالى كل يوم بتنسى كل حاجة حلوة فى حياتك واحدة ورا
التانية لغاية ما حياتك كلها تكون عبارة عن المشكلة دى بس ....بس بتكون ساعتها
مستولية على كل حياتك وبتشوف المشكلة دى كبيرة أوى...أكبر منك ومن عقلك ومن قدرتك أنك
تقف قدامها"
- "مرام! الموضوع أعمق
من كده بكتير!"
- "ايه؟"
- "انا كنت بحب بنت جداً!
كانت هى كل حياتى! هى اللى شجعتنى اجى هنا وأدرس وأكافح علشانها" صدمت مرام
لسماعها تلك الكلمات ولكن فى نفس الوقت شعرت بشعاع من الغيرة يخرج من أعماقها.
- "وسابتك؟" لم تسأل
مرام...ولكنها كانت تتمنى ذلك وبلا شعور خرجت الأمنية على هيئة سؤال.
- "اه!"
- "يبقى ماتستاهلش أنك
تعمل كده علشانها!!"
- "متقوليش عنها كده"
أشتد عود عمرو ونهاها بعنف. دهشت مرام جداً لرد فعله.
- "ليه مقولش عنها كده؟
مش سابتك؟ خلاص يبقى محدش يستاهل اصلاً كل اللى أنت بتعمله فى نفسك ده!"
- "ماتت!" قال
عمرو بشئ من البرود والقسوة ونظر اليها بعنف. شعرت مرام بأعماقها تهتز لسماعها تلك
الكلمة.
- "انا اسفة" همست
الكلام من شدة الخجل.
- "ماتت وسابتنى
لوحدى!"
- "..."
- "كل يوم جزء منى
بيموت معاها...كل يوم بافتكرها ألف مرة...كل يوم أحلم بيها...أتخيلها حولي...أتخيل
ابتسامتها...أتخيل نظرتها الواثقة فيّ...أتخيل شعرها يرفرف فى الهواء...أتخيل
رموشها...أتخيل لون بشرتها...اشم رائحة عطرها...أشعر بدفء يديها...أشعر بقلبها يدق
من اجلى انا بس!!" وضع عمرو وجهه فى كفيه ولم ينطق كلمة أخرى. شعرت مرام
بكثير من الدموع تتجمع داخلها.
- "كل ده حب
جواك؟"
- "..."
- "كل ده صدق فى
المشاعر؟"
- "..."
- "كل ده ألم؟"
بدا صوتها يرتعش فى مقاومة الدموع.
- "..." لم يرفع
وجهه عن كفيه.
- "..."
ظلا صامتان طويلا جداً.
لم ترفع عينيها عن البحر ولم يرفع وجهه عن كفيه...لم تهدأ أفكارها ولم يهدأ
فؤاده...كانت تنظر اليه بين الحين والآخر...وتنزل دمعة صامتة منها. وأخيراً بدأت
هى بالكلام مرة أخرى.
-
"انا حبيت قبل كده
زيك! انا فاهمة أد أيه أنت مجروح! انا عارفة أد أيه أنت بتتمنى الموت أكتر من
الحياة"
-
"..."
- "عمرو! انا مش بقولك إنساها...بس
بلاش تنسى ربنا! هو اللى خلقك وخلقها...هو اللى جمع أرواحكم وهو اللى خدها مرة
تانية لحكمة هو بس اللى يعرفها" دهشت مرام من كلامها كأن شبحاً يتكلم وليس هى.
رفع عمرو وجهه أخيراً عن كفيه.
- "انت يا مرام اللى
بتقولى كده؟!"
- "انا عارفة أنك اللى
قلت لى الكلام ده قبل كده...بس واضح أنك نسيته...أو بمعنى آخر...دفنته جواك"
- "انا مفقدتش ايمانى
بالله" قال وبصوته احساس خافت بإيمانه بالله.
- "بس ايمانك
اتهز!"
- "معرفش!"
- "ده اختبار من
ربنا...ولازم تنجح فيه!"
- "معرفش!"
- "عمرو حاول تفكر فيها
بطريقة ايجابية! يعنى بلاش ذكراها تكون هى السبب فى حالتك دى!"
- "ازاى؟"
- "فكر انك تنجح
علشانها! اكيد هاتكون سعيدة وهى بتشوفك ناجج!"
- "تشوفنى؟ مرام دى
ماتت!!!!!"
- "عارفة! بس أكيد
روحها حولك"
- "مفيش كلام فارغ من
ده"
- "طيب تحب أنها تموت
ولا تحب غيرك؟ تفضل أنها تموت وانت الحب الوحيد فى حياتها ولا تعيش وهى قدامك بس
مع واحد تانى؟"
- "افضل انها تكون مع
واحد تانى" قال بلا تردد.
- "ازاى بقى؟!"
- "لو كانت مع واحد
تانى أكيد هايكون فىّ سبب قوى يخلينا نسيب بعض...سبب يخلينا نفقد حبنا...سبب يخلى
فراقها محتمل...بس الموت...الموت طعمه مرّ!"
- "مش عارفة أقولك
ايه!" فرغت مرام من وسائلها للتخفيف عنه ولكنها كانت مازالت مصدومة من
الموقف.
- "متقوليش حاجة!"
- "هى ماتت ازاى؟"
شعرت مرام انها قاسية بهذا السؤال.
- "حادثة!"
شعرت مرام بقشعريرة تسرى بها...حادث سبب لها الاصابة
من قبل سنوات. شعرت أنها تستطيع المساعدة بعدما سمعت السبب.
-
"عمرو! انا اسفة
فى اللى هقوله...بس انها تموت افضل من انها تتشوه!"
-
"عزائى الوحيد
انها لو كانت عاشت ...كانت هاتعيش مشلولة...يعنى برده مكناش هانتجو...." سكت
عمرو فجأة وأنتبه لم يقوله...بلا شعور طعن مرام...بلا شعور أفصح عن أن فكرة الموت أفضل
من الزواج من قعيده. توقف قلب مرام عن الخفقان وبدلاً من قلبها وضع داخلها قطعة
ثقيلة من الصلب...فجأة تمنت ان تكون بحجرتها...تمنت له المزيد من الحزن...طعنها بلا تفكير وببرود!
- "..." لم تنظر
اليه ولكن بداخلها أطلقت السهام إلى قلبها وعقلها وأدمت كبريائها.
- "انا...انا
اسف...انا..." قال هامساً مضطرباً خجلاً ومحرجاً.
- "مفيش حاجة"
قالت مرام بصوت قاسى ملئ بالبرود والكبرياء.
- "بصى انا بس..."
- "ممكن نروّح؟ انا
زهقت!" قاطعته وبدأت فى تحريك كرسيها.
لم يتكلما طوال الطريق.
مشيا سويا وكانا قلبان...قلب مطعون وقلب محروق...كانا عقلان...عقل مضطرب من كثرة
الغباء وعقل مشتعل من كثرة الكبرياء...كانا روحان...روح ممزقة وروح نصف ميته!
الفصل
العشرون
مذكرتى
العزيزة
هل هناك
شخص فى الدنيا لم يجرحنى حتى الان؟ لا أعتقد! حتى عمرو يفضل فكرة الموت عن الحياة
بإعاقة...لم اذاً اللوم انى أيضاًً أفضل ذلك؟ النفاق! نعم النفاق هو ما يسرى فى
دمائنا. كنت أصدق كل كلامه بلا ادنى شك او حتى تفكير مرة أخرى فى صدقه...اما
الان...أسترجع جميع كلماته وأراه منافقاً!
أغرب شئ هو انى لم أنهار
من كلماته أمس! إنها مؤلمة حقاًَ ولكنى لست متأثرة كما أتوقع أن أتأثر عامة من
كلمات مثل تلك التى قالها لى. لم؟ لا أدرى! ربما لانى تعودت على الألم...او تعودت
على الإعاقة...أى من السببين أو كلاهما...لا يهم...انا لا يهمنى عمرو كما كان من
قبل.
هل هو العقل الذى
يجعلنى أفكر بهذه الطريقة...أم كبريائى؟
بعد فوات يوم كامل من
كلماته القاسة...بعد إسترجاعها عشرات المرات وأستجداء الدموع أن تأتي حتى أبكيها وأستريح....وبعد
فشلى فى البكاء...جائتنى فكرة غريبة جداً لم أفكر بها من قبل! أفكر فى أن أنضم
للعالم مرة أخرى. أفكر فى العمل! أعلم انها فكرة غريبة ولكنى أريد أن أقضى وقتى فى
شئ غير الشعوربالحسرة وإنتظار موتٍ لا يريد ان يأتى لىّ!
علاقتى بنالا أختلفت كثيراً
عما قبل. لا تزورنى الان الا نادراً! لا أعلم لماذا ولكن بالتأكيد هو الملل الذى
دفعها الى أخذ بضعه خطوات للوراء. الشئ الأكثر غرابة هو عدم مبالاتى بشأنها أيضاً.
لا يهمنى ما تعتقده هى فىّ...ولا يهمنى مشاركتها جميع تفاصيل حياتى...انها لا تعلم
برجوع عمرو الينا...لم أخبرها...نتصل ببعض فى فترات متباعدة جداً عما قبل ولكننا
نتكلم...ولم أخبرها...أشعر بسعادة خفيفة فى أن أخفى عنها شئ عنى وعن حياتى!
مذكرتى يا أعز ما أملك
حاليا...لقد بدأت بك...نعم كنت أنت البداية الحقيقة للتغير الذى أشعر به. لم اخبر
نالا بوجودك فى حياتى كما كنت أخبرها كل شئ كما تعودت...بدأت بك وأستطعت أن أخرج
عن إدمانى لها...لم يستمع الىّ من قبل أحد فى مثل صبرك...لم يعطنى أحد الفرصة فى أن
أحكى ما بداخلى بحرية مطلقة مثلك...أنت خير صديق وأفضل كاتم أسرار فى العالم...والأن
أستطيع إخفاء أكثر وأكثر عنها...أستطيع ان أطلعك على أفكارى ثم اقرأك وارى أفكارى
تكلمنى مرة أخرى!
ولكن...هل أنت كافية؟
هل أنت كافية لتغنينى عن الحياة؟! هل أنت خير صديق فعلاً؟ انت خرساء! انت بلا عقل!
بلا إرادة! بلا شعور! كل شئ نابع منك هى مشاعرى أنا... كلماتى أنا... أفكارى أنا! أين
انت؟ اين أفكارك المضادة لأفكارى؟ أين نصيحتك لى حين أحتاجها؟ اين لمسة يديك
الدافئة لتمسحى دموعى عندما تنساب؟ اين حضنك لأرتمى فيه وأفضى لك كل ما بى من
جوارح متأججة؟ أين عقلك لتستوعبى أفكرارى وتصوبيها؟
لا أعلم لما أتخذتك
صديقة لى؟ لا أعلم لماذا أستغنيت عن البشر بك؟ لا...لا...انى أعلم جيداً لما فعلت
ذلك...كره الناس! هذا هو ما كان يسيطر علىّ عندما لجأت اليك...لأنك لا
تجادلينى...لا تجرحينى...لا تطلبى أعتذارات منى عندما أخطئ...لا تطلبى منى الأبتسام
عندما أكون حزينة...لا تجبرينى على الإستماع الى نصائحك حينما أكون فى حاجة ألى
الكلام وليس النصيحة!
ولكنى أحتاج الى عقل ليصحح أفكارى
الراكدة...ليعدل لى مسار حياتى المعوجّ...أريد كلام غير الكلام الذى أمليه عليك...الى
دماء غير دمائى...الى حضن غريب يحتضننى...الى أفق اوسع...الى سماء أنقى...الى
مشاعر أرقى...الى يد قوية تشدنى من قاع بئر أفكارى...أحتاج الى إيمان!!!
-------------
أيامـــى
مرام! انا اسف! لا أعرف
ماذا أفعل لأعتذر لك...ولكنى حقاًَ اسف. كنت أكلمك عن رحمة ربى بى لأنه إعفانى من
الأرتباط بمصابة...وأنت مصابة! ولكنى لم أشعر حين إذ انك حالة خاصة...شعرت إنذاك
انك قوية...فى تلك اللحظة كنت أقوى منى...أطأننت اليك لأنك أقوى...لأن بإمكانك أحتواء
كلمات تخنقنى وأفكار تعذبنى! ولكنى رددت اليك الصداقة بطعنة!
نهى! هل أشكر الله انه
أخذك منى وآخر صورة لك فى مخيلتى هى صورتك صحيحة...صورة ضاحكة...صورة مضائة ومشعة
بالأمل ولم يجعل منك فتات إنسانة؟! لا أعلم هل أسخط على فقدانك أم أسعد؟ هل إن كنت
عشت ستكونين مثل مرام؟ هل ستصديننى؟ هل كنت ستفقدى ثقتك بالقوة الأكبر من البشر؟
هل ستسخطى على وضعك أم تتقبليه؟
هل كنت سأقف بجانبك؟
هل كنت سأتزوجك؟ وإن تزوجتك هل كنت ستقبلين حين يجئ يوم تلح على فيه طبيعتى كرجل
فى الزواج من غيرك؟ هل كنت ستقبلين أن أتزوج أخرى وأحبك أنت؟ هل كنت ستتوقفين عن
حبى لو افترقنا؟ هل كنت ستجعلى منى وحشاً إن قررت تركك؟ هل كنت ستتهميننى بالأنانية
أم كنت ستتفهمين؟ هل كنت ستحبى آخر فى مثل ظروفك وتفضلىن العيش بمن هو متكافئ معك أم
تفضليننى؟ هل كانت ستقبل عائلتى بك إن رضيت أنت؟ وإن صبرنا نحن على ما أصاب إحدنا...هل
كنت سأصبر عليك وعلى نفسى؟
لماذا أفكر فى أحتمال أصابتك
بالشلل؟ لا أعلم لماذا أفضل هذه الفكرة! أفضل فكرة أصابتك بشئ يعجز معه إتمام
علاقتنا بالزواج...ولكن هل ما أقوله صحيح؟ هل فعلاً كنت ستعيشين بهذه الأصابة ام
خيالى يداوى قلبى؟
مازلت أحبك...أكره
فكرة إنصرافك عنى...أكره ضعفى فى عدم وجودك...أكره ذاكرتى القوية. كلما خلوت إلى
نفسى أتذكر كل يوم كنا فيه سوياً...أيام الدراسة عندما كنت أحبك فى صمت...يوم
تخرجنا ولحظة بوحى لك بحبى العميق...رد فعلك ومصارحتك لى بحبك! وأتذكر كل لحظة
مررنا بها سوياً منذ تلك اللحظة الفاصلة فى حياتى...كل يوم...كل كلمة...وعندما أنتهى
بعد عدة ساعات من إستدعاء الذكريات...تبدأ المشاهد فى إعادة نفسها مرة أخرى...لا أكف
عن التفكير بك...لا أتذكر يوم خذلتينى فيه أبداً...لا أتذكر موقف لم تقفى بجانبى
فيه...لا يوجد لحظة لم تسانديننى فيها...وها انا الان أتخيلك بلا حركة فى كرسى
متحرك وأتسائل إن كنت سأتزوجك ام لا!! كم أنانى انا!!!!
الفصل
الواحد وعشرون
بعد مرور يومين من آخر
لقاء بين مرام وعمرو وقوله لكلمات جرحت مشاعرها وخذلتها وأحرجته, حاولت مرام البحث
على الأنترنت عن وظيفة. لم يكن ذلك سهلاً إطلاقاً ولكنها اشتركت بالعديد من مواقع
التوظيف على أى حال.
-
"مرام!
تليفون!" قالت امها من الطابق السفلى. رفعت مرام السماعة من تليفون حجرتها.
-
"نالا!
ازيك؟" قال مرام بلا حماس.
- "مرام! عأملة
ايه؟"
- "الحمد لله"
- "محدش بيسمع صوتك
يعنى الأيام دى!"
- "لا عادى! مفيش حاجة!
انت أخبارك ايه؟"
- "تمام! بس زعلانة
منك!" قالت نالا بصوت جامد قليلاً.
- "ليه؟" قالت مرام
بلا حماس أيضاً.
- "ازاى عمرو يرجع
ومتقوليش؟"
- "مجاش فرصة أقول!"
ردت على الفور وبلا تفكير.
- " يا سلام؟ ازاى بقى؟
طيب انا لما بسال احوالك ايه مبتقوليش ليه انه عندكوا؟"
- "وهى أحوالى ايه
علاقتها بيه؟؟!" جادلت مرام.
- "بس الأول كنتى
بتقولى لى على كل حاجة!"
- "وايه أتغير؟"
- "انت أتغيرتى كتير
اوى! لو متصلتش أنا مش بتتصلى...مش بتقولى أى حاجة خالص...طول المكالمة انا اللى
باتكلم مش انت...ليه كده؟ أنا عملت ايه؟"
- "انت معملتيش
حاجة...وأنا كمان مش متغيرة...بس انتى عارفة ساعات الحياة بتاخدنا شوية كده. عادى
يعنى مفيش حاجة"
- "الحياة؟ حياة
ايه؟!"
- "انا مشغولة شوية الأيام
دى!" لم ترد مرام الإفصاح عن خطتها عن البحث عن عمل.
- "مشغولة فى
ايه؟"
- "وانت كمان اكيد
مشغولة! وشغلك عامل ايه صحيح؟ المدير بتاعك لسه غلس معاكى؟"
- "لسه غلس اه وانت
بتهربى دلوقتى"
- "اهرب؟ من ايه؟"
- "من السؤال!"
- "سؤال ايه؟" راوغت
مرام صديقتها.
- "واضح انك مش فاضية فعلاً
لدرجة انك بتنسى اللى قلته من ثوانى! على العموم مش مشكلة. بس أحب أسمع صوتك"
- "اكيد طبعا"
- "سلام!"
- "سلام!" انهت
مرام المكالمة وشعرب بغصة فى حلقها.
أمسكت قلمها وترجمت ما يدور بعقلها الى كلمات
مقروئة.
مذكرتى
العزيزة
مرام! ارجعى عن تهورك! تريدين الانضمام الى العالم الخارجى...إلى
الناس...أن تزيدى معارفك...لماذا إذاً تطردى من تعرفينهم بالفعل؟ هل تريدين أن
تبدئى من الصفر حتى فى معرفة الأشخاص؟ ولكن ما معك هو صفر بالفعل! لا تستاهل نالا
هذا ولكنى أفهم ما تعنين بالأبتعاد أنت أيضاً عنها...انت تعاقبيها ولكن بلا شعور
منك! تعاقبيها لأنها بعدت عنك فى فترة ما...نالا صديقة حياتك وأنت تدينين لها
بالكثير...كنت تتعاملين مع جميع الأشخاص على انهم أعداء...الان تريدين مصادقتهم
ومخالطتهم ولكن...مصادقة الاعداء لا تعنى معاداة الأصدقاء!!!!!!
-------------
فقدت مرام حماسها بعد
مكالمة نالا وفقدت نشوة الفكرة الجديدة بالبحث عن عمل بعد كتابة السطور الأخيرة من
مذكراتها. تأملت قليلاً الصفحة المكتوبة وسمعت طرقات على بابها.
-
"اتفضل!"
-
"مرام! جالك ده
دلوقتى!" قالت الام بكثير من الاثارة.
- "جالى ايه؟"
التفتت مرام اليها ورأت الكثير من الورود ملفوفة فى ورق احمر.
- "مين يا ترى اللى
بعته؟" لمعت عين امها بالتشوق لمعرفة المرسل.
- "نالا! هى كلمتنى
علشان تقولى على الورد ده! شكراً"
اخذت مرام الورد وبعد خروج الام من حجرتها تأملت
الورد قليلاً وعرفت على الفور من المرسل...عمرو!...فكرت مرام وأبتسمت قليلاً.
كان فى وسط الورد مظروف صغير. فتحته وكان به سطراً واحدة فقط...بل كانت كلمة
واحدة...ولكنها مكتوبة باللغة العربية التى لا تجيد قارئتها مرام. أغتاظت
بشدة...حاولت أسترجاع شكل حروف اللغة العربية كما علمها لها أباها ولكن بلا فائدة.
نظرت طويلاً إلى الورد وفكرت فى ان تسأل أمها ان تقرأ لها الكلمة المبهمة...ولكنها
تكره مشاركة إى شخص شئ خاص بها.
أخذت الورقة وأتجهت الى حجرة عمرو بلا تردد.
طرقت بابه وانتظرت قليلاً...طرقت بابه مرة أخرى...ولكنه لم يكن بالداخل. دخلت
حجرتها وكتبت مرة أخرى فى مذكراتها:
مذكرتى
العزيزة
بعت لى ورد! عرفت انه المرسل لأنه بكل بساطة
الشخص الوحيد الذى لا يفهم فى ذوق اختيار الورود! انه بالتأكيد إعتذار عن كلامة
السخيف ولكنه فعل شئ أكرهه للغاية...كتب باللغة العربية...انى لا أعرف قرائتها ولا
كتابتها...شئ مستفز ان تستقبل شئ مبعوث اليك شخصياً ولا تستطيع قرائته.
ليس بحجرته...أستطيع إدعاء انى لم استقبل اى شئ
خصوصاً أن امى تعرف أن المرسل هى نالا.
ولكن...هل أعاقبه أيضاً مثلما عاقبت نالا بلا
وعى؟ هل أدعى عدم الأكتراث به وباعتذاره او حتى بكلامه الجارح؟
لا...لن افعل هذا...لن افقد الأشخاص القلائل
بحياتى...او على الأقل حتى أبنى درجات أخرى فى حياتى ليستقلها المزيد من الأشخاص!!
-------------
مساء هذا اليوم جاء عمرو متأخراً إلى
البيت...قبل دخوله حجرته خرجت مرام وأستقبلته خارج حجرتهما وطلبت منه الدخول دقائق
الى حجرتها لأنها تريد الكلام معه قليلاً.
-
"شكراً على الورد!
بس انا مش عارفة أقرا الكارت!"
- "مش عارفة ليه؟ الخط
وحش؟"
- "مش بالظبط, انا أصلى
مبعرفش أقرا عربى...أتكلم اللغة بس معرفش أقراها ولا أكتبها"
- "اه! اسف...مكنتش أعرف
كده!"
- "ممكن تقرا انت كتبت
ايه؟" مدت يدها بالكارت.
- "مكتوب 'سامحينى' " قال بلا ان
يمد يده.
- "..." نظرت مرام
للكلمة وأحمر وجهها خجلاً...لم تدر لخجلها سبب.
- "..."
- "على العموم مفيش
حاجة...ولا يهمك"
- "..."
- "عمرو! عايزة أقولك
حاجة صحيح! انا هاشتغل!" قالت وعلى وجهها ابتسامة مشرقة جداً.
- "تشتغلى؟؟!" أستبد
به الدهشة.
- "ايوه! ليه لأ؟ أنا درست
فى الجامعة والمفروض انى أستغل التعليم أللى خدته"
- "بس تشتغلى
ايه؟"
- "اى حاجة!"
- "ربنا يوفقك ان شاء
الله" قالها ليتجنب مناقشتها.
- "شكراً"
بعد خروج عمرو من حجرتها ذهب مرام لأخيها.
-
"نادر! عايزة منك
خدمة"
-
"خييير؟"
- "عايزاك تاخد الورق
بتاعى وتحطه فى شركات يكونوا عايزين فيها موظفين"
- "نعم؟ ورق مين؟"
- "انا!"
- "انت؟؟؟؟!"
- "ايوه انا! انا
هاشتغل!"
- "ازاى بس يا مرام؟
بلاش يا حبيبتى علشان صحتك متتعبش"
- "هاتساعدنى ولا لأ؟"
كانت مرام عنيدة للغاية.
- "لأ!" ولكن
العند شئ متوارث عندهم فى العائلة...فنادر اكثر عنداً!
- "مش عايزة منك حاجة!"
نزلت لأمها.
-
"ماما! عايزاكى
تجيبى المجلة اللى فيها إعلانات وظائف...مش فاكرة اسمها ايه كده! عارفاها؟"
-
"عايزاها ليه يا
ميرو؟"
- "علشان عايزة أشتغل!"
كانت مرام تستمع برد فعل من حولها من الفكرة...كانت تحب الصدمة التى تحدثها بهم.
- "ليه؟ انت عايزة
فلوس؟"
- "فلوس؟ فلوس ايه بس
يا ماما؟ انا عايزة أشتغل علشان كرهت القعدة فى البيت دى! انا مش بعمل اى حاجة
بالسنين اللى بتجرى منى! عايزة أشتغل وأخرج للدنيا بقى!"
- "بس هاتشتغلى ايه
؟"
- "معرفش! اى حاجة! كل
مكان فيه نسبة عمل للمعاقين!" قالت مرام كلمة 'معاقين' كأنها كلمة عادية
جداً وغير جارحة.
- "انا مش عارفة أقولك
ايه! بس انا مش هابقى متطّمنة عليكى وانت بتشتغلى!"
- "ليه؟ عارفة عندى كام
سنة ولا نسيتى؟ انا عندى خمسة وعشرين سنة!!! اى بنت غيرى كان زمانها سايبة بيت أهلها
من زمان وبتشتغل بقالها سنين واحتمال كمان يكون عندها أسرة بتاعتها وأولاد وزوج
ومسئوليات كتير! ليه بتعاملونى على انى مختلفة؟ ليه؟ انا كل الاختلاف اللى فيا انى
فقدت قدرة المشى...فقط! يعنى محصليش إعاقة ذهنية او أتجننت علشان تعاملونى على انى
متأخرة عقلياً!!! يا ماما كفاية بقى اللى حصل...كفاية تفضلى تخدمينى زى ما يكون
طفلة...كفاية كلكوا تعاملونى معاملة خاصة جدا علشان مزعلش...كفاية احس انى فى
زنزانة داخل جلدى...كفاية تجنب الكلام العادى معايا علشان الجرح اللى
جوايا...كفاية معاملة "قابلة للكسر" اللى انا بتعامل بيها من كل الناس!
كفاية بقى كفاية! انا زهقت جدا! انا مفيش اى حاجة مختلفة عن غيرى...بالعكس انا طول
عمرى متميزة فى اى حاجة بعملها وده معناه انى أكيد هانجح فى اى مجال أختاره...وحتى
لو فشلت...الفشل والمحاولة مرة تانية أفضل من الركود حتى الموت!"
- "أعملى اللى على كيفك
يا مرام!" استدارت الام عن ابنتها لتدارى دموعها.
الفصل
الثاني والعشرون
على مدار أسبوعين ظلت مرام تبحث فى
اعلانات الجرائد والمجلات عن فرص العمل المتاحة وظلت ترسل بورقها للعديد من
الشركات والبحث على الانترنت على مواقع التوظيف. تلقت ردان فقط وطلبوا منها الذهاب
اليهم لأجراء مقابلة شخصية. كانت مرام فى قمة الإثارة لذلك. ذهبت لابيها تطلب منه
نقود كثيرة.
-
"عايزة فلوس كتير
كده ليه يا ميرو؟" قال الاب بكثير من الحنان...لم تطلب مرام منه اى شئ خلال
الثلاث سنوات السابقة.
-
"علشان أشترى لبس
جديد" قالت وابتسامة واسعة تعتلى وجهها.
- "بس كده؟ حاضر! شوفى
انتى عايزة ايه وانا هادفع على طول!" قبّل الأب أبنته وأحتضنها قليلاً ثم قال
"مرام! مش تفكرى تانى فى حكاية الشغل دى؟ إحنا خايفيين عليكى"
- "بابا! علشان خاطرى
بلاش تفتح الموضوع ده معايا لأنه موضوع منتهى! انا هاشتغل! انا محتاجة ده! لو فعلاً
خايف عليا ساعدنى...خلينى اعيش حياتى فى مسار طبيعى مش مسار مبطن بالقطن!"
- "قطن؟!!"
- "ايوه قطن! مخدات
كتير اوى بتحطوها حولى علشان لما اقع الاقى حاجة مريحة اقع عليها لغاية ما بقيت فى
منتهى الضعف! الانسان من غير تجارب بيكون زى سمك الزينة...كل يوم حد يهتم به
ويطعمه ويهتم بنظافة الحوض...وإن جاء يوم وسبح فى النهر مرة أخرى يموت لأنه غير
قادر على الحياة بلا سند...وجود السمكة فى حياتنا لا تزيد عن كونها زينة! انا مش
زينة...انا إنسانة كاملة!"
- "مرام! خليكى واقعية!
هاتروحى الشغل ازاى؟ هاتشتغلى ازاى؟ انا مش عايز أجرحك بكلام زى ده بس انا خوفى
عليكى يحتّم عليّا أفتح عينك"
- "بابا! حضرتك بتفتح
جرح جديد بالأسلوب ده مش بتفتح عينى!" قالت مرام وحماسها لا يخفت.
- "بس احنا خايفين
عليكى!"
- "من ايه؟ من الناس؟
من نظراتهم؟" جادلته مرام.
- "..."
- "المفروض تخافوا عليا
من العزلة...انا عارفة انى المسئولة عن العزلة دى بس الوقت جه أنى أخرج منها...انا
مش حيوان منزلى أليف علشان أفضل هنا...فى حياة كبيرة كاملة فى انتظارى علشان أعيشها
خارج الجدار دى...بلاش تحرمنى حقى الطبيعى فى الحياة!"
- "قولى لماما عايزة
ايه وانا هاديها فلوس علشان تجيبها لك الوقت اللى انت عايزاه" وجد الاب أن
مناقشتها بلا طائل.
- "ماما؟ ليه؟ انا
هانزل أختار بنفسى اللى انا عايزاه!"
- "حاضر!" كان يعلم
تماماً انه لا طائل من مجادلاتها.
صباح اليوم التالى ذهبت
مرام مع امها الى مركز تجارى كبير لتختار ملابس جديدة. صعودها للسيارة وخارجها كان
صعباُ ولكنها لم تهتم...يجب ان تتعود على ذلك وكانت تعلم ان فى يوماً ما كل شئ
سيكون أسهل وأفضل. تجولت بالمحال وأختارت ملابس عديدة. تجربة الملابس كانت مشكلة أخرى...كيف
تقيس الملابس مثل الفساتين والبنطلونات وهى على كرسيها؟! بل كيف تدخل الى حجرة
الملابس بالكرسى؟ لم تبال أيضاً...جربت الملابس التى تستطيع قياسها على نصفها الأعلى...جربت
الملابس فوق ملابسها. لم تبال إطلاقاً بأى شخص أو بأى شئ...أثارت دهشة امها جدا فى
هذا اليوم...لم تكن تلك ابنتها الحزينة الهشّة الضعيفة الخائفة من جميع الناس...إنها
قوية حقاَ. سعدت الأم كثيراً بحال ابنتها وكانت تساعدها فى إختيار الألوان والاذواق.
أشترت الكثير من الملابس وما لم تستطع قياسها أختارت بعناية الموديل وتأكدت من ان المقاس
صحيحاً.
بعد كثيراً من التجول
وشراء الكثير جداً من الملابس كانت تريد شراء أحذية جديدة أيضاً. مقاس مرام مثل أمها
تماماً ولم تكن تلك مشكلة إذن...أختارت الألوان والأشكال وكان على امها تجربتها...ولم
تكن مشكلة اطلاقاً لأن مرام لا تشعر بقدميها على أى حال. أشترت خمس أحذية وأربع
شنط. بعد الانتهاء من الشراء ذهبت الام مع ابنتها الى مطعم صغير بجانب المركز
التجارى وشربا قهوة سوياً. شعرت الأم انها
أستعادت أبنتها مرة أخرى...تبادلوا حديثاً طويلا عن الأسعار والأشياء المعروضة
وكانت مرام تضحك كثيراً وتعلق كثيراً على المارة.
-
"ممكن أطلب حاجة
كمان؟ انا عارفة انى طماعة" تكلمت مرام مثل الأطفال.
-
"انتى النهاردة
تطلبى اللى عايزاه"
- "عايزة أروح أعمل
شعرى!"
- "بس كده؟ عايزة تعملى
فيه ايه؟"
- "عايزة أخليه قصير!
انا زهقت من الشعر الطويل...وكمان عايزة أغير لونه"
- "بس لون شعرك زى
الشيكولاته! لونه حلو جداً!"
- "لا انا عايزة
اغيره" كانت تتكلم كالأطفال فعلاً.
- "وعايزاه لون
ايه؟"
- "مش عارفة...عايزاه
بنى برده بس درجة مختلفة...أو ممكن أعمله من درجات مختلفة من البنى" قالت
مرام.
- "اعملى اللى انت
عايزاه!"
- "وأنت كمان. انت كمان
لازم تعملى شعرك"
- "(ضحكت الام) انا
كمان ليه؟ انا مفيش عندى مقابلة عمل"
- "بس انا عايزاكى
تعملى شعرك! بجد هاتحسى انك أحلى وأحسن كتير خالص"
- "مش عارفة!"
- "انا مصممة على
كده!"
- "(تضحك مرة أخرى)
حاضر يا حبيبتى"
- "تعرفى يا ماما!
تعرفى أول مرتب ليا هاعمل بيه ايه؟" لمعت عينى مرام.
- "هاتعملى بيه
ايه؟"
- "هاشترى هدايا ليكوا
كلكوا...تحبى أجيب لك ايه؟"
- "انا مش عايزة حاجة!
انا أحب اشوفك مبسوطة بس" لمعت دمعة فى عين الأم.
- "لا بس انا هاجيب لك
هدية لازم"
- "طيب اشتغلى الاول وبعدين
نفكر فى حكاية الهدية دى"
- "مش برده عيد ميلاد
بابا الأسبوع اللى جاى؟"
- "اه! يوم
الاربع"
- "تيجى نجيب له هدية
دلوقتى ونشيلها لغاية عيد ميلاده ما ييجى؟" قالت مرام وهى سعيدة جداً بالأفكار
الجديدة المطرقة لتفكيرها.
- "ماشى! بس هانجيب له
هدية بالفلوس بتاعته؟ معقول؟ المفروض اننا نجيب له هدية بالفلوس اللى معانا مش
بالفلوس بتاعته"
- "بس انا مش معايا
فلوس...وهو مش هايقول حاجة"
- "زى ما تحبى...نجيب
له ايه؟" كانت سعادة الام بابنتها وهى تتصرف بطبيعية تجعلها توافق على اى شئ.
- "هو محتاج ايه؟
بارفان؟ كرافات؟ بدلة؟ قميص؟ مش عارفة...نجيب له ايه؟"
- "بابا عنده الحاجات
دى كلها" بالفعل أندمجت الام فى أفكار ابنتها.
- "خلاص نفكر واحنا فى
الكوافير!"
غيرت مرام لون شعرها من
اللون البنى الى لون النبيذ...وجعلته اقصر كثيراً عما قبل...وغيرت الام أيضاً من
لون شعرها وجعلته بلون الكراميل الغامق...كانت كلاهما مثل تلميذتين هاربتان من
المدرسة...كانا تضحكان كثيراً جداً بصوت عالى غير مباليين بأى شخص...كانت مرام
تشعر بان دمائها بدأت تتحرك مرة أخرى بعد ركود...شعرت الأم بسنوات عمرها تتناقص مع
ضحكاتها.
فكرا فيما يشترون لعيد
الميلاد وفى النهاية قررت مرام شراء حذاء رياضى جديد له...لم يكن يمتلك حذاء جيد.
بعد شرائه ذهبا للمنزل وكانت الشمس مغموسة فى البحر تودع يوم سعيد!
مذكرتى
العزيزة
لا اصدق كم اضعت من
حياتى فى حجرتى تلك! لا اصدق مدى سعادتى اليوم! لا أصدق كم أهدرت سنوات غالية من
عمرى! لا اصدق كيف أطلقت عنان حياتى للكئابة والحزن على شئ لن يرجع! قد أكون
انسانة مختلفة الأن عما قبل وقد أصدم عندما اقارن بين ما أكتبه الان بما كتبته من
قبل ولكنى صادقة دائماً.
صندوق حياتى الزجاجى
وجدت به شرخ صغير...دققت عليه وتحول الى شرخ أكبر...أستخدمت كل قوتى لأصدع
الحائط...ونجحت...لا يبق غير هدم الحائط!! دفعة صغيرة جداً وأحطمه وأصبح حره
طليقة!
-------------
بعد يومين ذهبت مرام لإجراء
أول مقابلة شخصية فى شركة لإنتاج الأوراق. كان المكتب الرئيسى بباليرمو...ذهبت
مرام اليهم وكانت فى قمة تأنقها وثقتها بنفسها. كانت خائفة ولكن لم يكن لديها أى
شئ لتفقده وقررت ألا تفقد ثقتها أيضاً...حتى إن لم تفز بالوظيفة...فهذا لا يهم
طالما خاضت التجربة.
دخلت مكتب الشخص المراد
ورحب بها وعاملها كأنها بلا اعاقة...عاملها كانسانة عادية وأعطاها ذلك الأكثر من
الثقة. تكلما كثيراً وكانت تعرف تجاوب بذكاء وسرعة...كانت تريد الوظيفة فعلاً وأهلت
نفسها تماماً لمثل هذا الموقف. كانت موضحة حالتها الصحية بالأوراق المقدمة ولم
يتكلم معها فى هذه النقطة بالطبع اطلاقاً ولكنه بدا مرحباً بها وأضاء ذلك أملاً
داخلها. أنصرفت وهى سعيدة جداً بالتجربة وبداخلها أمنية كبيرة فى الحصول على
الوظيفة.
بعد يومين كانت تستعد
للذهاب الى الشركة الأخرى التى تلقت منها رداً...ولكنها استقبلت مكالمة من المكتب
الرئيسى لشركة إنتاج الورق تطلب منها الذهاب فى اليوم التالى لإستلام العمل! كانت
سعادتها لاتوصف...شعرت كأن كيانها كله ينبض.
to be continued...
ريم اسامة
No comments:
Post a Comment